اعلَمْ : أنَّه -سبحانه وتعالى- لمَّا تكلَّم في التوحيد والنُّبوَّة، تكلَّم بعدهما في ذكر المَعَاد، وبيَّن عقاب الكافر، وثواب المُطيعِ، ومن عادة الله -تعالَى- أنه إذا ذَكَرَ الوَعِيدَ، أَنْ يعقبَهُ بذكرِ الوَعْد.
وها هنا فُصُولٌ :
الأوَّلُ : هذه الآياتُ صريحةٌ في أنَّ الجنَّة والنَّار مخلوقَتَانِ، لأنه -تعالى- [ قال ] في صفَة النَّار :﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٢٤ ] وقال في صفَة الجَنَّة في آية أخْرَى :﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ]، وقال ها هنا :﴿ وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ﴾ وهذا إخبار عن وُقُوع هذا المُلْك وحُصُوله، وحُصُول المُلْك في الحالِ يقْتَضي حصُولَ المَمْلُوك في الحال؛ فَدَلَّ على أنَّ الجنَّة والنَّار مخْلُوقَتَان.
الثاني : مَجَامَعُ اللَّذَّاتِ : إما المَسْكن، أو المَطْعم، أو المَنْكَح.
فَوَصَفَ تعالى المَسْكَن بقولِهِ :﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ والمَطْعَمَ بقوله :﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً ﴾ والمَنْكَح بقوله :﴿ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾.
ثم هذه الأشياءُ إنْ حصَلَتْ، وقارنَهَا خوْفُ الزوالِ، كان النَّعِيمُ مُنَغَّصاً، فبيَّن -تعالى- زوالَ هذا الخَوْف بقوله :﴿ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ؛ فدلَّت الآيةُ على كَمَال النَّعيم والسُّرور.
الثالثُ : قولُهُ :﴿ وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ ﴾ هذه الجملةُ معْطُوفة على ما قَبْلها، عَطَف جُمْلَةَ ثوابِ المُؤْمنين، على جملة ثَوَاب الكافرين، وجاز ذلك؛ لأنَّ مذْهب سِيبَويهِ -وهو الصَّحيحُ- : أنَّه لا يشترطُ في عَطْفِ الجُمَلِ التَّوافُقُ معْنًى، بل تُعْطَف الطلبيَّة على الخَبَرية؛ وبالعكس؛ [ بدليل ] قوله :[ الطويل ]

٣٠٦- تُنَاغِي غَزَالاً عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ وَكَحَّلْ أَمَاقِيكَ الحِسَانَ بِإِثْمِدِ
وقولِ امرِئ القَيْسِ :[ الطويل ]
٣٠٧- وإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ وَهَلْ عِنْدَ رَسْمِ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
وقال ابنُ الخَطِيبِ : ليس الَّذي اعتمد بالعَطْف هو الأَمْر، حتى يطلب له مشاكل من أمر ونهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة ثواب المؤمنين؛ فهي معطوفة على جملة وَصْف عقاب الكافرين كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والضرب وَبَشِّرْ عمرو بالعفو والإطلاق.
وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون عطفاً على « فاتَّقوا » ليعطف أمراً على أمر، وهذا قد رده أبو حيان بأن « فاتقوا » جواب الشرط، فالمعطوف يكون جواباً؛ لأن حكمَه حكمُه، ولكن لا يصح؛ لأن تبشيره للمؤمنين لا يترتب على قوله :« فإن لم تفعلوا ».
وقرئ :« وبُشَِّرَ » [ ماضياً ] مبنيًّا للمفعول.
وقال الزمخشري :« وهو عَطْف على أعدت ».
قيل : وهذا لا يتأتى على إعراب « أعدت » حالاً؛ لأنها لا تصلح للحالية.
وقيل : عطفها على « أعدت » فاسد؛ لأن « أعدت » صلة « التي »، والمعطوف على الصلة صلة، ولا يصلح أن يقال :« الباء » التي بشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنَّ لهم جنَّاتٍ، إلاَّ أن يعتقد أن قوله :« أُعِدَّتْ » مستأنفٌ، والظاهِرُ أنَّهُ من تمام الصلة، وأنَّهُ حالٌ من الضمير في « وقودها »، والمأمور بالبشارة يجوز أن يكون الرسولُ عليه السَّلامُ، وأن يكون كُلُّ سَامِعِ، كما قال عليه السلام :


الصفحة التالية
Icon