« بَشِّر المَشِّائِينَ إلَى المَسَاجِدِ في الظُّلَمِ بِالنُّورِ التَّامِّ يوم القِيَامِةِ »، لم يأمر بذلك أحداً بعينه، وإنَّما كل أحدٍ مأمور به.
و « البِشارةُ » : أوّل خبرٍ من خيرٍ أو شَرٍّ؛ قالوا : لأنَّ أثرها يظهرُ في البَشَرَةِ، وهي ظاهرُ جِلْدِ الإنْسَانِ؛ وأنْشَدُوا :[ الوافر ]
٣٠٨- يُبَشِّرُنِي الغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي... فَقُلْتُ لَهُ : ثَكِلَتُكَ مِنْ بَشِيرِ
وقال آخر :[ الطويل ]

٣٠٩- وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أنَّ أَحِبَّتِي جَفَوْني وأّنَّ الوُدَّ مَوْعِدُهُ الحَشْرُ
وهذا رأى سيبويه، إلاّ أنَّ الأكثر استعمالُهَا في الخير، وإن استُعْمِلَتْ في الشَّرِّ فَبِقَيْدٍ؛ كقوله تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٢١ ]، وإن أُطْلِقَتْ، كان للخَيْرِ.
وقال البغويُّ :« البِشَارَةُ كل خبر صدقٍ ».
وقال ابن الخطيب : إنَّها الخبرُ الذي يُظْهِرُ السرور، ولهذا قال الفقهاءُ : إذا قال لعبيده : أيُّكم يُبَشِّرُنِي بقدوم فلان فهو حرٌّ، فَبَشَّروه فُرَادَى، عَتَق أولهم؛ لأنَّهُ هو الذي أفاد خبره السرور. ولو قال مكان بَشَّرَني « : اَخْبَرَنِي عَتَقُوا جميعاً؟ لأنَّهم جميعاً أخبروه، ظاهِرُ كلام الزمخشري أنَّها تختص بالخير؛ لأنَّهُ تَأَوَّلَ » فبشِّرهم بعذابٍ « على العكس في الكلام الذي يقصد به الزيادة في غيظ المُسْتَهْزَأ بَهِ وتَأَلُّمِهِ، كما يقول الرَّجُلُ لِعَدوِّه : أَبْشِرْ بقتل ذريتك ونَهْبِ مالك.
والفِعْلُ منها بَشَرَ وبَشََّرَ مخففاً ومثقلاً، فالتثقيل للتكثير بالنسبة إلى البشيرة.
وقد قُرِئ المضارع مخففاً ومشدَّداً.
وأمَّا الماضي فلم يقرأ به إلا مثقلاً نحو ﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ﴾ [ هود : ٧١ ] وفيه لغةٌ أخرى : أَبْشَرَ مِثل أَكْرَمَ.
وأنكر أبو حَاتِمٍ التخفيف، وليس بصواب لمجيء مضارعه.
وبمعنى البشارة : البُشُور والتَّبْشِير والإِبْشَار، وإن اختلفت أفعالُها، والبِشَارةُ أيضاً : الجَمَالُ، والبشيرُ : الجميلُ، وتباشيرُ الفَجْرِ أَوائِلُهُ.
وكون صلة »
الَّذين « فعلاً ماضياً دون كونه اسم فاعل، دليلٌ على أنه يستحقُّ التبشير بفضل الله ممن وقع منه الإيمانُ، وتحقَّقَ به وبالأعمال الصالحة.
و »
الصَّالِحَاتُ « : جمع » صالحة «، وهي من الصفات التي جَرَت مجرى الأسماءِ في إيلائِها العوامل؛ قال :[ البسيط ]
٣١٠- كَيْفَ الهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ مِنْ آلِ لأْمٍ بِظَهْرِ الغَيْبِ تَأْتِيني
وعلامةُ نصبه الكَسْرَةُ؛ لأنَّهُ من باب جمع المؤنث السالم عن الفتحةِ، التي هي أصلُ النَّصْبِ.
قال معاذ :»
العملُ الصالحُ الذي فيه أربعة أشياء : العِلْمُ والنِّيَّهُ والصَّبْرُ والإخْلاصُ «.
وقال عثمان بن عَفَّان :»
أخلصوا الأعمال «.
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب : هذه الآية تدلّ على أن الأعمالَ غير داخلةٍ في الإيمان؛ [ لأنَّهُ لمَّا ذكر الإيمان ]، ثمَّ عطف عليه العمل الصالح، فوجب التغير وإلا لزم التكرار، وهو خلاف الأصل.
قوله :﴿ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ﴾.
»
جنَّاتٍ « : اسم :» أنَّ «. و » لهم « خَبَرٌ مُقَدَّمٌ.


الصفحة التالية