﴿ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً ﴾ [ نوح : ٦ ] أي : لم يزدهم الدُّعاءُ إلاَّ فِراراً.
وقال :﴿ فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي ﴾ [ المؤمنون : ١١٠ ] وهم لم ينسوهم في الحقيقة، وكانوا يُذَكِّرونهم الله.
وقال :﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٤- ١٢٥ ].
فأخبر تعالى أنَّ السورة المشتملة على الشَّرَائعِ يُعَرَّفُ أحوالهم.
فمنهم من يصلح عليها؛ فيزداد بها إيماناً؛ ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كُفْراً، فأضيفت الزيادةُ في الإيمان، والزيادة في الكُفُرِ إلى السُّورة؛ إذ كانوا إنَّما صلحوا عند نزولها وفسدوا، فهكذا أُضيفَ الضَّلالُ والهُدَى إلى الله تعالى؛ إذ كان حدوثهما عند ضربة - تعالى - الأمثال لهم.
وثانيهما : أنَّ الإضلال هو التسمية بالضلالة، فيقال : أَضَلَّهُ إذا سماه ضالاً، وأكفر فلان فلاناً إذا سمّاه كافراً، وذهب إليه قطرب، وكثير من المعتزلة.
ومن أهل اللغةِ من أنكره، وقال : إِنَّمَا يقال : ضللته تضليلاً، إذا سمَّيْتُهُ ضالاًّ، وكذلك فَسّقته وفَجَّرته، أي : سَمَّيْتُه : فاسقاً وفاجراً.
وأجيب عنه بأنَّه حتى صَيَّرَهُ في نَفْسِهِ ضالاَّ لَزِمَهُ أي يُصَيِّره محكوماً عليه بالضَّلال فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير وإطلاق اسم الملزوم على اللازمِ مشهورٌ.
وثالثهما : أن يكون الإضلال هو التَّخلية، وترك المنع بالقهر، والجبر، فيقال : أَضَلَّهُ أي : خَلاَّه وضلاله.
قالوا : ومجازه من قولهم :« أَفْسَدَ فُلانٌ ابْنَهُ، وأهلكه » إذا لم يتعهدّه بالتأديب؛ ومنه قوله :[ الوافر ].

٣٣٦- أَضَاعُونَي وَأَيِّ فَتَىً أَضَاعُوا ......................................
ويقال لمن ترك سيفه في الأرضِ النَّدِيَّةِ حَتَّى فَسَدَ وصدئ : أفسدت سيفك وأصدأته.
ورابعها : الضلال، والإضلال هو العذاب والتعذيب لقوله ﴿ إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ﴾ [ القمر : ٤٧ ] ﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار ﴾ [ القمر : ٤٨ ]، فوصفهم بأنَّهُم يوم القيامةِ في ضلال، وذلك هو عذابه.
وخامسها : أن تحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال، كقوله :﴿ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [ محمد : ١ ] قيل : أهلكها، وأبطلها، ومجازه من قولهم :« ضَلَّ الماءُ في اللَّبَنِ » إذا صار مستهلكاً فيه.
ويقال : أضَلَّ القَوْمَ مَيِّتَهُمْ، أي : واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يُرَى.
وقالوا :﴿ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض ﴾ [ السجدة : ١٠ ] فيتحمل أن يضل الله إنساناً أي : يهلكه ويعدمه.
وسادسها : أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجَنَّةِ.
قالت المعتزلة : وهذا في الحقيقة ليْسَ تأويلاً، بل حَمْلٌ للَّفظ على ظاهره فإن الآية تَدُلُّ على أَنَّهُ يضلّهم، وليس فيها دلالة على أنه عن ماذا يُضلهم؟ فنحن نحملها على أنَّهُ - تعالى - يُضِلُّهم عن طريق الْجَنَّةِ، ثُمَّ حملوا كُلَّ ما في القرآنِ من هذا الجنس على هذا المحمل، وهو اختيار الجُبَّائي. قال تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير ﴾ [ الحج : ٤ ] أي : يُضِلُّه عن الجَنَّةِ وثوابها هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية.
وسابعها : ان تحمل الهمزة لا على التعدية، بل على الوجدان على ما تقدَّم، فيقال : أَضَلَّ فلانٌ بَعِيرَهُ أي : ضَلَّ عنه، فمعنى إضلال الله - تعالى - لهم أَنَّهُ وجدهم ضَالِّين.


الصفحة التالية
Icon