وثامنها : أن يكون قوله :« يُضِلُّ به كَثِيراً، ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً » من تمام قول الكُفَّار كأَنَّهم قالوا : ماذا أراد اللهُ بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه؟
ثُمَّ قالوا : يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً، ذكروه على سبيل التَّهَكُّمِ، فهذا من قول الكُفَّارِ، ثُمَّ قال تعالى جواباً لهم :« وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِيْنَ » أي ما أضَلَّ إِلاَّ الفاسقين.
هذا مجموع كلام المعتزلة.
قالت الجبرية : وهذا معارضٌ بمسألة الدّاعي، وهي أن القادِرَ على العلم والْجَهِلِ والإهداء والضلالِ لم فعل أحدهما دون الآخر؟
ومعارضٌ أيضاً بمسألة العلم ما سبق تقريرها في قوله تعالى :﴿ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ ﴾ [ البقرة : ٧ ].
والجَوَابُ عن الآيات يأتي في مواضعه.
قوله :« وما يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِيْنَ » « الفاسقين » مفعول ل « يضل » وهو استثناء مُفَرّغ، وقد تقدَّم معناه، ويجوز عند القرّاء أن يكون منصوباً على الاستثناء والمستثنى منه محذوف تقديره :« وما يُضِلُّ به أحداً إِلاَّ الفاسقين » ؛ كقوله :[ الطويل ]
٣٣٧- نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ | وَلَمْ يَنْجُ إِلاَّ جَفْنَ سَيْفٍ ومئزَرَا |
و « الفِسْقُ » لغةً : الخروجُ، يقالُ : فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرهَا، أي : خَرَجَتْ، والفأرة من جُحُرِها.
و « الفاسقُ » : خارج عن طاعةِ الله، يقال : فَسَقَ يَفْسُقُ وَيَفْسِقُ بالضم والكسر في المضارح فِسْقاً وفُسُوقاً، عن الأخفش فهو فَاسِقٌ.
وزعم ابن الأعرابي، أنَّه لم يسمع في كلام الجاهلية، ولا في شعرهم « فاسق »، وهذا عجيبٌ، وهو كلامٌ عربيٌّ حكاه عنه ابن فارس والجَوْهَرِيُّ، وقد ذكر ابنُ الأَنْبَارِيُّ في كتاب « الزَّاهِر » لمَّا تَكَلَّمَ على معنى « الفِسْقِ » قَوْلَ رُؤْبَة :[ الرجز ]
٣٣٨- يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْراً غَائِراً | فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا |
فعند بعضهم أنَّه مؤمن، وعند الخوارج : أنَّه كافرٌ، وعند المعتزلة : أنَّه لا مؤمن ولا كافر.
واحْتَجَّ الخَوَارجُ بقوله تعالى :﴿ بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان ﴾ [ الحجرات : ١١ ].
وقال :﴿ إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ التوبة : ٦٧ ]. وقال :﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان ﴾ [ الحجرات : ٧ ] وهذه مسألة طويلة مذكورة في علم الكلام.
قوله :« الَّذيِنَ يَنْقُضُون » فيه أربعة وجوه :
أحدها : أَن يكون نعتاً ل « الفاسقين ».