« أما أهل النَّارِ الَّذِين هم أهلها فَإِنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ فيها ولا يَحْيَون، ولكن ناس أصابَتْهُمُ النَّارُ بذنوبهم -أو قال بِخَطَايَاهم- فأماتهم الله إماتَةً حتى إذا كانوا فَحْماً أذن في الشَّفاعة، فجيء بهم ضَبَئر ضَبَئر، فَبُثُّوا على أنهار الجَنَّة ثم قيل : يا أهل الجَنّة أفيضوا عليهم فينبتون نَبَات الحِبَّة تكون في حَمِيْل السّيل » الحديث.
قال : فقوله :« فأماتهم الله » حقيقة في الموت، لأنه أكّده بالمصدر، وذلك تكريماً لهم.
وقيل : يجوز أن يكون « أماتهم » عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم، ولا يكون ذلك موتاً على الحقيقة، والأول أصح، وقد أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكّد بالمصدر لم يكن مجازاً، وإنما هو على الحقيقة، كقوله :﴿ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً ﴾ [ النساء : ١٦٤ ]، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقيل : المعنى : وكنتم أمواتاً بالخمول، فأحياكم بأن ذكرتم، وشرفتم بهذا الدين، والنبي الذي جاءكم، ثم يميتكم فيموت ذكركم، ثم يحييكم للبعث.
فصل في أوجه ورود لفظ الموت
قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ « الموت » على خمسة أوجه :
الأول : بمعنى « النُّطْفة » هذه الآية.
الثاني : بمعنى « الكفر » قال تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ] ومثله :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات ﴾ [ فاطر : ٢٢ ].
الثالث : بمعنى « الأرض التي لا نَبَات لها »، قال تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا ﴾ [ يس : ٣٣ ].
الرابع : بمعنى « الضّم » قال تعالى :﴿ والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ ﴾ [ النحل : ٢٠، ٢١ ].
الخامس : بمعنى « مفارقة الروح الجسد ».
فصل في أوجه ورود لفظ الحياة
الأول : بمعنى دخول الرُّوح في الجَسَدِ كهذه الآية.
الثاني : بمعنى « الإسلام » قال تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ] أي : هديناه إلى الإسلام.
الثالث : بمعنى « صفاء القلب » قال تعالى :﴿ اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [ الحديد : ١٧ ] أي يصفي القلوب بعد سَوَاداها.
الرابع : بمعنى « الإنبات » قال تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا ﴾ [ يس : ٣٣ ] أي : أنبتناها.
الخامس : بمعنى « حياة الأنفس » قال تعالى :﴿ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [ الفجر : ٢٤ ].
السادس : بمعنى « العيش » قال تعالى :﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] أي : لنرزقنّه عيشاً طيباً.
فصل في إثبات عذاب القبر
قال ابن الخطيب : احتج قوم بهذه الآية على بطلان عذاب القَبْرِ، قالوا : ويؤيده قوله :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٥، ١٦ ] ولم يذكر حياةً فيما بين هاتين الحالتين، قالوا : ولا يجوز الاستدلال بقوله تعالى :﴿ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين ﴾ [ غافر : ١١ ] ؛ لأنه قول الكفار، ولأنّ كثيراً من الناس أثبتوا حياة الذَّر في صُلب آدم حين استخرجهم وقال لهم :﴿ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ] وعلى هذا التقدير حصل حَيَاتان وموتتان من غير حَاجَةٍ غلى إثبات حَيَاةٍ في القبر، فالجواب لم يلزم من عدم الفِكْرِ في هذه الآية ألا تكون حاصلة، وأيضاً فللقائل أن يقول : إن الله -تعالى- ذكر حَيَاة القبر في هذه الآية؛ لأن قوله :« ثُمَّ يُحْيِيكُمْ » ليس هو الحياة الدائمة، وإلا لما صح أن يقول :« ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون » ؛ لأن كلمة « ثُمَّ » تقتضي التَّراخِي، والرجوع إلى الله -تعالى- حاصل عقب الحَيَاةِ الدَّائمةِ من غير تَرَاخٍ، فلو جعلنا الآية من هذا الوجه دليلاً على حياة القبر كان قريباً.