وقد تقدم نظائر هذا التركيب.
قوله :« وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ » كقوله « أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » من كون « أعلم » فعلاً مضارعاً، و « أفعل » بمعنى « فاعل » أو « أفعل » تفضيل، وكون ما في محلّ نصب أو جر، وقد تقدم.
والظاهر : أن جملة قوله :« وأعلم » معطوفة على قوله :« إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ »، فتكون في محلّ نصب بالقول.
وقال « أبو البقاء » : إنه مستأنف، وليس محكياً بالقول : ثم جوَّز فيه ذلك.
و « تبدون » وزنه :« تفعون » ؛ لأن أصله : تبدوون مِثْل : تخرجون، فأعلّ بحذف « الواو » بعد سكونها، و « الإبداء » : الإظهار، و « الكَتْم » الإخفاء؛ يقال : بَدَا يَبْدُو بَدَاء؛ قال :[ الطويل ]

٣٧٧-......................... بَدَا فشي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ
وقوله :« وَمَا كُنْتُمْ تَكْتَمونَ » عطف على « ما » الأول بحسب ما تكون عليه من الإعراب.
روي عن ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير : أن قوله :« ما تُبْدُون » أراد به قولهم :« أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا » وبقوله :« وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون » أراد به ما أسر « إبليس » في نفسه من الكبر وألاَّ يسجد.
قال « ابن عطية » : وجاء « تكتمون » للجماعة، والكاتم واحدٌ في هذا القول على تجوّز العرب واتِّسَاعها، كما يقال لقوم قد جَنَى مهم واحد : أنتم فعلتم كذا، أي : منكم فاعله، وهذا مع قَصْد تعنيف، ومنه قوله :﴿ إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات ﴾ [ الحجرات : ٤ ] وإنما ناداه منهم عُيَيْنَةُ.
وقيل :« إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ » من الأمور الغائبة، والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها، ولكن لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أنّ المصلحة في خلقها.
وقيل إنه -تعالى- لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً قالوا : ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه، فهذا الذي كَتَمُوا، ويجوز أن يكون هذا القول سرًّا أسروه بينهم، فأبداه بعضهم لبعض، وأسروه عن غيرهم، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان.
وقالت طائفة : الإبْدَاء والكَتْم المراد به العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع، وهذه الآية تدلّ على فضيلة العلم.


الصفحة التالية
Icon