« أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا » أي : أَشَقُّهَا، وقوله لعائشة :« إنَّمَا أَجْرُكِ على قَدْرِ نَصْبِكِ ».
ولقائل : أن يقول : في الوَجْه الأول لا نسلّم أن عبادة الملائكة أشقّ.
أما قولهم : السماوات جنات.
قلنا : نسلم، ولم قلتم بأن العبادة في المَوَاضع الطّيبة أشقّ من العبادة في المواضع الرَّديئة؟ أكثر ما في الباب أنه تهيّأ لهم أسباب النعم، فامتناعه عنها مع تهيئتها له أشق، ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمعةٌ على البشر، ومع هذا يرضون بقضاء الله، ولا تغيرهم تلك المِحَنُ عن المُوَاظبة على عبوديته، وهذا أعظم في العبودية.
وأما قولهم : المُوَاظبة على نَوْعٍ واحدٍ من العبادة أشقّ.
قلنا : لما اعتادوا نوعاً واحداً صاروا كالمَجْبُورين الذين لا يقدرون على خِلاَفِهِ؛ لأنَّ العادة طبيعة خامسة، ولذلك قال ﷺ :« أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ كان يصوم يوماً ويُفْطر يوماً ».
ورابعها : قالوا : عبادات المَلاَئكة أَدْوَم؛ لأن أَعمارهم أطول، فكانت أفضل لقوله ﷺ :« أَفْضَلُ العُبَّاد من طل عمره، وحَسُنَ عمله ».
ولقائل أن يقول : إن نوحاً ولقمان والخَضِر -عليهم الصَّلاة والسلام- كانوا أطول عمراً من محمد -E- فوجب أن يكونوا أفضل منه، وذلك باطل بالاتفاق.
وخامسها : أنهم أسبق في كل العِبَادِاتِ فيكونون أفضل لقوله تعالى :﴿ والسابقون السابقون أولئك المقربون ﴾ [ الواقعة : ١٠، ١١ ] ولقوله ﷺ :« من سَنَّ سُنَّةٌ حَسَنَة فله أَجْرُهَا وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ».
ولقائل أن يقول : فهذا يقتضي أن يكون آدم -E- أفضل من محمد عليه الصلاة والسّلام؛ لأنه أوّل من سَنّ عبادة الله من البشر وأسبق، وذلك باطل.
وسادسها : أن الملائكة رُسُل إلى الأنبياء، والرسول أفضل من الأمة.
فإن قيل : إن السلطان إذا أرسل واحداً إلى جمع عظيم ليكون حاكماً فيهم، فإنه يكون أشرف منهم، أمّا إذا أرسل واحداً إلى واحد، فقد لا يكون الرسول أشرف، كما إذا أرسل السلطان مَمْلُوكَهُ إلى وزيره في مُهِمَّة [ فإنه لا يلزم أن يكون ذلك العبد أشرف من الوزير ]. قلنا : لكن جبريل -عليه السلام- مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر، فعلى هذا يكون جبريل أفضل منهم.
وأيضاً أن الملك قد يكون رسولاً إلى ملك آخر أو إلى أحد من الأنبياء، وعلى التقديرين الملك رسول، وأمته رسل، والرسول الذي كل أمته رسل أفضل من الرسول الذي ليس كذلك، ولأن إبراهيم -عليه الصّلاة والسلام- كان رسولاً إلى لُوطٍ -عليه السّلام- فكان أفضل منه، وموسى كان رسولاً إلى الأنبياء الذين كانوا في عَصْرِهِ، فكان أفضل منهم.
ولقائل أن يقول : الملك إذا أرسل رسولاً إلى بعض النواحي، فقد يكون ذلك الرسول حاكماً ومتولياً أمورهم، وقد يكون ليخبرهم عن بعض الأمور مع أنه لا يجعله حاكماً عليهم، فالقسم الأوّل هم الأنبياء المبعوثون إلى أممهم، فلا جرم كانوا أفضل من الأنبياء.