إذا ثبت أن طاعتهم أشقّ، فوجب أن يكونوا أكثر ثواباً للنص والقياس.
فأما النص قوله ﷺ :« أَفْضَلُ العِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا » أي : أشقُّها، وأما القياس فإن الشيخ الذي ليس له مَيْلٌ إلى النِّسَاء إذا امتنع عن الزِّنَا ليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنه مع النَيْلِ الشّديد، والشَّوق العظيم.
وسابعها : أن الله -تعالى- خلق للملائكة عقولاً بلا شهوة، وخلق للبهائم شهوةً بلا عَقْلٍ، وخلق الآدمي وجمع فيه الأمرين، فصار الأدمي بسبب العَقْل فوق البهيمة بدرجة، فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون المَلاَئكة، ثم وجدنا الآدمي هَوَاهُ عقله، فإنه بصير دون البَهِيْمَةِ على ما قال :« أولئك كَالأَنْعَام بَلْ هُمْ أَضَلُّ » فيجب أن يقال : إذا غلب عقله هواه أن يكون فوق الملائكة اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر.
وثامنها : أن الملائكة حَفَظَةٌ، وبنو آدم محفوظون، والمحفوظ أشرف من الحافظ، أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الأول، فقالوا : قد سبق بيان أنّ من الناس من قال : المراد من السُّجود التَّواضع لا وضْع الجَبْهَةِ على الأرض، وإن سلم أنه وضع الجبهة لكنه قال : السُّجود لله وآدم قبله، فزال الإِشْكَال، وإن سلم أن السجود كان لآدم، فلم قلتم : إن ذلك لا يجوز من الأشرف؟ وذلك لأن الحكمة قد تقتضي إظهار نهاية الانقياد، والطاعة، فإن للسلطان أن يجلس عَبْداً من عبيده، ويأمر الأكابر بخدمتهن ويكون غرضه إظهار كونهم مُطِيْعِين مُنْقَادين له في كلّيات الأمور، وأيضاً فإن الله -تعالى- يفعل ما يَشَاءُ، ويحكم ما يريد، فإن أفعاله غير معلّلة، ولذلك قلنا : إنه لا اعتراض عليه في خلق الكُفْرِ في الإنسان، ثم يعذبه عليه أبد الآباد، وإذا كان كذلك، فكيف يعترض عليه في ان أمر الأعلى بالسجود لمن هو دونه.
وأما الحجّة الثانية فجوابها أن كون آدم خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم -عليه السلام- كان أَشْرَفَ من كل من في الأرض ولا يدلّ على كونه أشرف من ملائكة السماء.
فإن قيل : فَلِمَ لم يجعل واحداً من ملائكة السماء خليفة له في الأرض؟
قلت : لوجوه : منها أن البشر لا يطيقون رُؤْيَةَ الملائكة، ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل.
وأما الحجّة الثالثة : فلا نسلّم أنّ آدم كان أعلم منهم، وأكثر ما في الباب أن آدم -عليه الصَّلاة والسَّلام- كان عالماً بتلك الُّلغات، وهم ما علموها، لكنهم لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء، مع أن آدم -عليه السلام- ما كان عالماً بها ويحقق هذا أن محمداً -عليه أفضل الصلاة والسلام- أفضل من آدم -عليه السلام- مع أن محمداً ما كان عالماً بهذه اللُّغات بأسرها، وأيضاً فإن « إبليس » كان عالماً بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم من الجَنّة، وأن آدم -عليه السلام- ليس كذلك، والهُدْهُد قال لسليمان صلوات الله وسلامه عليه :