[ الزخرف : ١٩ ] أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة.
وثالثها : أنّ الملائكة معصومون، و « إبليس » لم يكن كذلك فوجب ألا يكون من الملائكة.
ورابعها : أن « إبليس » مخلوق من نار لقوله تعالى حكاية عن « إبليس » :﴿ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ ﴾ [ الأعراف : ١٢ ].
قال :﴿ والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم ﴾ [ الحجر : ٢٧ ] والملائكة مخلوقون من النّور، لما روت عائشة عن النبي ﷺ قال :« خلقت المَلاَئِكَةُ من نُورٍ وخُلِقَ اجَانّ من مَارِجٍ من نَارٍ ».
حجّة القول الثاني، وهو أن « إبليس » كان من الملائكة أمران :
الأول : أن الله -تعالى- استثناه من الملائكة، والاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب، قال الله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي ﴾ [ الزخرف : ٢٦، ٢٧ ] وقال :﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً ﴾ [ الواقعة : ٢٥، ٢٦ ] وقال :﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً ﴾ [ مريم : ٦٢ ]، وقال :﴿ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ ﴾ [ النساء : ٢٩ ]، وقال :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً ﴾ [ النساء : ٩٢ ] وأيضاً فلأنه كان جنيًّا واحداً بين اللوف من الملائكة، فغلبوا عليه في قوله : فسجدوا، ثم استثني هو منهم استثناء واحد منهم؛ لأنا نقول : كل واحد من هَذَيْنِ الوجهين على خلاف الأصل، وذلك إنما يُصَار إليه عند الضرورة، والدلائل الذي ذكرتموها في نفي كونه من المَلاَئكة ليس فيها إلاّ الاعتماد على العُمُومَاتِ، فلو جعلنا من الملائكة لزم تَخْصِيصُ ما عَوَّلْتُمْ عليه من العُمُومَاتِ.
ولو قلنا : إنه ليس من الملائكة لزمنا جعل الاستثناء منقطعاً، فكان قولنا أولى، وأيضاً فالاستثناء إنما يتحقّق من الشيء والصرف، ومعنى الصرف إنما يتحقّق حَيْثُ لولا الصّرف لدخل، والشيء لا يدخل في غير جنسه، فيمتنع تحقق معنى الاستثناء منه.
وأما قوله : إنه جني واحد من الملائكة لما كان قوله :﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا ﴾ متناولاً، ولا استحال أن يكون تركه السجود إباءً واستكباراً ومعصية، ولما استحقّ الذم والعقاب، ولما حصلت هذه الأمور، علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله، ولن يتناوله ذلك الخطاب إلاّ إذا كان من الملائكة. لا يقال : إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه لمّا نشأ منهم، وطالت خُلْطته بهم والتصق بهم علا ولكن الله تعالى أمر بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله :﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ [ الأعراف : ١٢ ] لأنا نقول : أما الأول فجوابه : أن المُخَالطة لا توجب ما ذكرتموه ولهذا قيل في أصول الفقه : خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدّة المخالطة بين الصنفين، وأيضاً فشدّة المُخَالطة بين الملائكة، وبين « إبليس » لما لم يمنع اقتصار اللَّعن على إبليس، فكيف يمنع اقتصار ذلك التَّكليف على المَلاَئِكَةِ، لونا كونه أمر بأمر آخر غير محكي في القرآن، فإن ترتيب الحكم على الوَصْفِ يشعر بالغَلَبَةِ، فلما ذكر قوله :« أَبَى واسْتَكْبَرَ » عقيب قوله :« وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ : اسْجُدُوا لآدَمَ »، أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مُخَالفة هذا الأمر، لا بسبب مُخَالطة أمر آخر، وطريق الجمع بين الدليلين ما ذكرنا عن ابن عباس أن « إبليس » كان من الملائكة، فلما عَصَى الله غضب عليه، فَصَار شيطاناً.