الاعتراض الثالث : أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا يجوز لهم الاجْتِهَادُ؛ لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظنّ وذلك إنما يجوز في حَقّ من لا يتمكن من تحصيل العلم، أمّا الأنبياء فإنهم قادرون على تَحْصِيلِ اليقين، فوجب ألا يجوز لهم الاجتهاد؛ لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلاً وشرعاً، وذا ثبت ذلك ثبت أن افقدام على الاجتهاد معصية.
الاعتراض الرابع : هذه المسألة إما أن تكون من المَسَائل القَطْعِية او الظنية، فإن كانت من القطيعات كان الخطأ فيها كبيراً، وحينئذ يعود الإشكال، وإن كانت من الظَّنيات فإن قلنا : إن كل مجتهد مصيب فلا يتحقّق الخطأ فيها أصلاً.
وإن قلنا : المصيب فيها واحد، والمخطيء فيها معذور بالاتفاق، فكيف صار هذا القدر من الخطأ سبباً لإخراج آدم - ﷺ - من الجنة؟
والجواب عن الأوّل : أن لفظة « هذا » وإن كان في الأصل إشارة إلى الشَّخص، لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع كما تقدم بيانه.
والجواب عن الثاني : أن الله - سبحانه وتعالى - كان قد قرن به ما دلّ على أنّ المراد هو النوع، لكن لعلّ آدم - ﷺ - قصر في معرفة ذلك الدَّليل؛ لأنه ظنّ أنه لا يلزمه ذلك في الحال.
أو يقال : إنه عرف ذلك الدليل في وقت ما نهاه الله - تعالى - عن عين الشَّجرة، فلما طالت المدة غفل عنه، لأن في الخبر أن آدم - ﷺ - بقي في الجَنّة الدهر الطويل، ثم اخرج.
والجواب عن الثالث : أنه لا حاجة ها هنا إلى إثبات أن الأنبياء تمسَّكوا بالاجتهاد، فإنَّا بيَّنَّا أن آدم - ﷺ - قصّر في معرفة تلك الدّلالة، وإن كان قد عرفها، لكنه قد نسيها، وهو المراد من قوله تعالى :﴿ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ﴾ [ طه : ١١٥ ].
والجواب عن الرَّابع : يمكن أن يقال [ كانت ] الدلالة قطيعة [ إلا أنه ] - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما نسيها صار النِّسْيان عذراً في ألاّ يصير الذنب كبيراً، أو يقال : كانت ظنيةً إلاَّ أنه ترتَّب عليه من التَّشديدات ما لم يترتّب على خطأ سائر المجتهدين؛ لأن ذلك يجوز أن يختلف باختلاف الأشخاص، وكما أن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - مخصوص بأمور كثيرة في باب التَّشديدات بما لا يثبت في حق المة فكذا ها هنا.