[ لقمان : ١٤ ] فبدأ بنفسِه، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى.
وثالثها : نِعْمُ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضاً من الله تعالى؛ لأنه لولا أنَّ الله -سبحانه وتعالى- وَفَّقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأَزَاحَ الأعذار عَنا، وإلاّ لَمَا وصلنا إلى شَيْءٍ منها، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة كم الله تَعَالى.
الفائدةُ الثانيةُ : اختلفوا [ في أنه ] هل لله -تعالى- نعمةً على الكافرِ أَم لاَ؟ فقال بعضُ أصحابنا : ليس لله -تعالى- على الكافر نعمة.
وقالت المعتزلةُ : لله -تعالى- على الكافر نعمة دينية، ونعمة دنيوية. واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم، بالقرآن [ الكريم ]، والمعقول.
أما القرآنُ؛ فقوله تبارك وتعالى :﴿ صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ وذلك لأنه لو طلب كان لله على الكافر نعمةٌ، لكانوا داخِلينَ تحت قوله :﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ فيكون طلباً لصراطِ الكُفَّارِ، وذلك بَاطِلٌ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله -تعالى- على الكافر نعمةٌ.
فإن قَالُوا : إنَّ قَوْله :﴿ الصراط المستقيم ﴾ يدفعُ ذَلِكَ.
قلنا :﴿ صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ بدل مِنْ قَوْلِهِ :﴿ الصراط المستقيم ﴾ ؛ فكان التَّقْدير :« اهدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم »، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوف المذكورُ.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً ﴾ [ آل عمران : ١٧٨ ].
وأما المَعْقُولُ : فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مقابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام، كالقَطْرةِ في البحر، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً، فقد احتجُّوا بقوله تعالى :﴿ يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً ﴾ [ البقرة : ٢١، ٢٢ ]، على أنه يَجِبُ على الكُلِّ طاعةُ الله -تعالى- لأجلِ هذه النعم، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً؛ وقولِه تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً ﴾ [ البقرة : ٢٨ ]، ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ، وشرحِ النعم.
وقولِه تعالى :﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ٤٠ ].
وقولِه تعالى :﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور ﴾ [ سبأ : ١٣ ].
وقول إبليس :﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٧ ].
ولو لم تحصل النعمة، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاّ عند حصول النعمة.
الفائدة الثالثةُ : قال ابنُ الخَطيب -C- : قوله تعالى :﴿ اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ يدل على إمامةِ أبي بكر -Bه؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية :« اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم » والله -تعالى- قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ ﴿ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ من هم؛ بقوله تعالى :﴿ فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين ﴾ [ النساء : ٦٩ ] ورئيسهم أبو بكر الصّديق -رضي الله تعالى عنه- فكان معنى الآية أن الله -تعالى- أمرنا أن نطلب الهداية [ التي كان عليها أبو بكر الصديق، وسائر الصّديقين، ولو كان أبو بَكْرٍ -Bه- فكان معنى الآية أن الله -تعالى- امرنا أن نطلب الهداية [ التي كان عليها أبو بكر الصديق، وسائر الصّديقين، ولو كان أبو بَكْرٍ -رضي الله تعالى عنه- غيرَ إمام، لما جَازَ الاقتداء به ]، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا، أو نعمة الدين، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين.