وقال سيبويه :« إنما اختلس أبو عمرو فظنَّه الراوي سَكَّن ولم يضبط ».
وقال المبرِّد :« لا يجوز التسكين مع تَوَالِي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شِعْرِ، وقراءة أبي عمرو لحن ».
وهذه جرأة من المبرد، وجهل بأشعار العرب، فإن السُّكُونَ في حركات الإعراب قد ورد في الشعر كثيراً؛ منه قول امرء القيس :[ السريع ]

٤٩٧ فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُنْتَحْقِبٍ إِنْماً مِنَ الله وَلاَ وَاغِلِ
فَسكَّن « أَشْرَبْ »، وقال جَرِير :[ البسيط ]
٤٩٨...................... وَنَهْرُ تِيرَى فَلاَ تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ
وقال آخر :[ السريع ]
٤٩٩ رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ مَا فِيهِمَا وَقَدْ بَدَا هَنْكِ مِنَ المِئْزَرِ
يريد :« هَنُك وتَعْرِفُكُكم » فهذه حركات إعراب، وقد سُكّنت، وقد أنشد ابن عطية وغيره رَدَّا عليه قوله :[ الرجز ]
٥٠٠ قَالَتْ سُلَيْمَى : اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا... وقول آخر :[ الرجز ]
٥٠١ إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ : صَاحِبْ قَوِّمِ... وقول الآخر :[ الرمل ]
٥٠٢ إِنَّما شِعْريَ شَهْدٌ قَدْ خُلِطْ بِجْلْحُلانِ
ولا يحسن ذلك؛ لأنها حركات بناء، وإما منع هو ذلك من حركات الإعراب، وقراءة أبي عمرو صحيحةٌ، وذلك أن الهمزة حرف ثقيلٌ، ولذلك اجتزء عليها بجميع أنواع التخفيف، فاستثقلت عليها الحركة فقدِّرتن وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة رحمه الله في قوله تعالى :﴿ وَمَكْرَ السيىء وَلاَ ﴾ فإنه سكن همزة « السّيِّىء » وصلاً، والكلام عليهما واحد، والذي حسنه هنا أنّ قبل كسرةِ الهمزةِ راءٌ مكسورةٌ، والراء حرف تكرير، فكأنه توالى ثلاث كسرات فحسن التَّسْكين، وليت المبرِّد اقتدى بسيبويه في الاعْتِذَار عن أبي عمرو. وجميع رواية أبي عمرو دائرة على التَّخْفيف، وذلك يدغم المثلين، والمتقاربين، ويُسَهِّل الهمزة، ويسكن نحو :﴿ يَنصُرْكُمُ ﴾ [ آل عمران : ١٦٠ ] و ﴿ يَأْمُرُكُمْ ﴾ [ البقرة : ٦٧ ] و ﴿ بِأَعْلَمَ بالشاكرين ﴾ [ الأنعام : ٥٣ ] علكى تفصيل معروف عند القُرَّاء، وروي عنه إبدالُ هذه الهمزة السَّاكنة ياءً، كأنه لم يعتدّ بالحركة المقدرة، وبعضهم ينكر ذلك عنه، فهذه أربع قراءات لأبي عمرو.
وروى ابن عطية عن الزهري :« بَارِيكُمْ » بكسر الياء من غير همزة قال :« ورويت عن نافع ».
قلتك من حق هذا القارىء أن يكسن الياء؛ لأن الكسرة ثقيلةٌ عليها، ولا يجوز ظهورها إلاّ في ضرورة شعر؛ كقول أبي طالب :[ الطويل ]
٥٠٣ كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ الله نُبْزِي مُحَمَّداً وَلَمْ تَخْتَضِبْ سُمْرُ العَوَالِي بالدَّمِ
وقرأ قتادة :« فَاقْتَالُوا » وقال : هي من الاستِقَالة.
قال ابن جنِّي : اقْتَالَ : افتعل، ويحتمل أن تكون عينها واواً ك « اقْتَادُوا » أوياء ك « اقْتَاسَ »، والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة.
ولكن قتادة ينبغي أن يُحْسَنَ الظنُّ به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجّة عنده.
وقرىء أيضاً :« فَأَقِيلُوا أنفسكم » بالياء المُثَنَّاة التحتية، وهي موافقة للرسم أيضاً.
« والبارىء » : الخالق، برأ الله الخلق أيك خلقهم، وقد فرق بعضهم بين الخَالِقِ والبارىء، بأن البَارِىءَ هو المبدع والمُحْدِث، والخالق هو المقدر النَّاقل من حال إلى حال، وأصل هذه المادّة يدلّ على الانفصال والتميز، ومنه : برأ المريض بُرْءاً وبَرْءاً وبَرَاءَةً، وبرئت أيضاً من الدَّيْن براءةً، والبَرِيّة : الخلق؛ لأنهم انفصلوا من العَدَمِ إلى الوجود، إلاّ أنه لا يهمز.


الصفحة التالية
Icon