وقيل : أصله من البَرَى وهو التراب. وسيأتي تحقيق القولين إن شاء الله تعالى.
قوله :﴿ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ ﴾.
قال بعض المفسرين : هذه الآية وما بعدها منقطعمةٌ عما تقدم من التذكير بالنعم؛ لأنها أمر بالقَتْلِ، والقتل لايكون نعمة، وهذا ضعيف لوجوه.
أحدها : أن الله تعالى نبَّههم على عظم ذنبهم، ثم نبّههم على ما به يتخلّصون عن ذلك الذنب العظيم، وذلك من أعظم النعم في الدين، وإذا عدّد الله عليهم النعم الدنيوية، فتعديد النعم الدينية أولى، ثم إنّ هذه النعمة، وهي كيفية التَّوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدّمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضاً مع تمام النّعمة، فصار كل ما تضمّنته هذه الآية معدوداً في نعم الله تعالى، فجاز التذكير بها.
وثانيها : أنه تعالى لما أمرهم بالقَتْلِ رفع ذلك الأمر عنهم قيل فَنَائِهِمْ بالكلية، فكان ذلك نعمة في حَقِّ الباقين والموجودين في زمن محمد ﷺ لأنه رفع القَتْلَ عن آبائهم، فكان نعمة في حقهم.
وثالثها : أنه تعالى لما بين أنّ توبة أولئك ما تمّت إلا بالقَتْلِ مع أن محمداً ﷺ كان يقول لهم : لا حَاجَةَ بكم الآن في التوبة إلى الَقَتْلِ، بل إن رجعتم عن كفركم، وآمنتم قَبِلَ الله إيمانكم فكان بيان التَّشديد في تلك التوبة تنبيهاً على أن توبة الحاضرين نعمة عظيمة لكونها سهلةٌ هيّنةٌ.
ورابعها : أن فيه ترغيباً شديداً لأمة محمد ﷺ في التوبة، فإن أمة موسى عليه الصَّلاة والسَّلام لما رغبوا في تلك التَّوْبة مع [ غاية ] مشقْتها على النفس، فلأن نرغب نحن في التوبة التي هي مُجَرّد الندم أولى.

فصل في كيفية قتل أنفسهم


أجمعوا على أنه لم يؤمر كلّ واحد من عبدة العِجْلِ بأن يقتل نفسه بِيَدِهِ، قال الزُّهرِي : لما قيل لهم :« فَتُوبُوا إلى بَارِئَكُمْ » قاموا صَفّين، وقتل بعضهم بعضاً، حتى قيل لهم : كفُّوا، كفان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحَيّ.
وقيل : أرسل الله عليهم ظلاماً ففعلوا ذلك.
وقيل : قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا، إذ لم يعبدوا العِجْل. وقيل : إن يُوشَعَ بن نُون خرج عليهم وهم مُحْتَبُونَ فقال : ملعون من حلّ حَبْوَتَهُ أم مَدّ طرفه إلى قاتله، أو اتَّقَاهُ بِيَدٍ أو رِجْلٍ. فلم يَحلّ أحد منهم حبْوَتَه حتى قتل منهم من قتل. ذكره النحاس وغيره. وإنما عوقب الذين لم يبعدوا العِجْلَ بقتل أنفسهم على القول الأول لأنهم لم يغيروا المنكر، وإنما اعتزلوا، وكان الواجب عليهم أن يُقَاتلوا من عبده.


الصفحة التالية
Icon