﴿ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى ﴾ [ البقرة : ٥٧ ]، واشربوا ماء العيون المتفجّرة. وعلى هذا فالجار والمجرور يحتمل تعلّقه بالفعل قبله، ويحتمل أن يكون حالاً من ذلك المفعول المحذوف، فيتعلّق بمحذوفة.
وقيل : المراد بالرِّزْقِ الماء وحدهن ونسب الأكل إليه لما كان سبباً في نَمَاءِ ما يؤكل وحَيَاته، فهو رزق يؤكل منه ويشرب. والمُرَاد بالزرق المرزوق، وهو يحتمل أن يكون من باب « ذِبْح ورِعْي »، وأن يكون من باب « درهم ضرب الأمير » وقد تقدم بيانه.
فإن قيل : قوله :﴿ مِن رِّزْقِ الله ﴾ يفهم منه أن ثَمَّ رزقاً ليس لله، وذلك باطل.
فالجواب : من [ وجوه ] :
[ أحدها : أن هذا مفهوم لقب؛ فلا يدل ]
الثاني : أن هذا رِزْقٌ لم تعمل فيه أيديهم بِحَرْثٍ ولا غيره، فهو خالص أرسله الله إليهم.
الثالث : أن إضافته إلى الله تعالى إضافة تشريف لكونه أشرف ما يؤكل، وما يشرب؛ لأنه تسبّب عن معجزٍ خارقٍ للعادة.

فصل في كلام المعتزلة


واحتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلاق قالوا : لأن أقل درجات قوله : كلوا واشربوا الإباحة، فهذا يقتضي كون الرزق مباحاً، فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحاً وحراماً وإنه غير جائز.
قوله :﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾.
أصل « تعثوا » :« تَعْثَيُوا »، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذف الأول منهما وهو الياء، أو لما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً فالتقى ساكنان، فحذفت الألف، وبقيت الفتحة تدل عليها. وهذا أولى، فوزنه « تفعون ».
و « العِثِيّ » و « العَيْث » : أشد الفساد وهما متقاربان.
وقال بعضهمك « إلا أنّ العَيْثَ أكثر ما يقال فيما يدرك حسّه، والعِثِيّ فيما يدرك حكماً، يقال : عَثِيَ يَعْثَى عِثِيًّا، وهي لغة القرآن، وَعَثَا يَعْثُو عُثُوًّا، وعَاثَ يَعيثُ عَيْثاً ».
وليس « عاث » مقلوباً من « عَثِيَ » ك « جَبَذَ وجَذَبَ » لتفاوت معنييهما كما تقدم.
ويحتمل ذلك، ثم اختصّ كل واحد بنوع، ويقال : عَثِي يَعْثَى عِثِيًّا ومَعَاثاً، وليس « عَثِيَ » أصله « عَثِوَ » فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ك « رضي » من الرِّضْوَان، لثبوت العِثِيِّ، وإن تَوَهَّم بعضهم ذلك.
ويقال : عَثَّ يَعُيُّ مضافاً أي : فسد، قال ابن الرِّقَاع :[ الكامل ]
٥٢٦ لَوْلاَ الحَيَاءُ وَأَنَّ رَأَسِيَ قَدْ عَثَا فِيهِ المَشِيبُ لَزُرْتُ أُمَّ القَاسِمِ
ومنه : العُثَّة :[ سوسة ] تفسد الصُّوف.
وأما « عَتَا » بالتاء المُثَنّاة من فوق فهو قريب من معناه، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
و « مُفْسِدِينَ » حال من فاعل « تَعْثُوا » وهي حال مؤكدة؛ لأن معناها قد فهم من عاملها، و حسن ذلك اختلاف اللفظين، ومثله :﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴾ [ التوبة : ٢٥ ]، هكذا قالوا. ويحتمل أن تكون حالاً مبينة؛ لأن الفساد أعم، والمعنى أخص، ولهذا قال الزمخشري : فقيل لهم لا تَتَمَادّوْا في الفساد في حال فسادكم؛ لأنهم كانوا متمادين فيه. فغاير بينهما كما ترى.
و « في الأرض » يحتملم أن يتعلّق ب « تعثوا » وهو الظاهر، وأن يتعلّق ب « مفسدين ». والمراد بالأرض : عموم الأرض [ لا ] أرض التِّيْهِ.
والمراد بالفساد هاهنا هو قوله في سورة طه :﴿ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ ﴾ [ طه : ٨١ ].


الصفحة التالية
Icon