قال القَفَّال رحمه الله :« إنهم بعد قبول التوراة، ورفع الطور تولّوا عن التَّوْراة بأمور كثيرة، فحرّفوا التوراة وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بها وعصوا أمرهم ولعلّ فيها اختصّ به بعضهم دون البعض، ومنها ما علمه أوائلهم، ومنها ما فعله متأخروهم، ولم يزالوا في التِّيهِ مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى، ويعرضون عنه، ويلقونه بكلّ أذى، ويجاهرون بالمعاصي حتى لقد خسف ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، وكلّ هذا مذكور في تراجم التوراة، ثم فعل متأخروهم ما لا خَفَاءَ به من تخريب » بيت المقدس «، وكفروا بالمسيح وهمّوا بقتله. والقرآن وإن لم يكن فيه بَيَانُ ما تولوا به عن التوراة، فالجملة معروفة من إخبار الله تعالى عن عِنَادِ أسلافهم، فلا عَجَبَ في إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من الكتاب والنبوة ».
قوله :﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ الله ﴾ « لولا » هذه حرف امتناع لوجود، والظَّاهر أنها بسيطة وقال أبو البَقَاءِ : هي مركّبة من « لو »، و « لا » و « لو » قبل التركيب يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، و « لا » للنفي، والامتناع نفي في المعنى، وقد دخل النفي ب « لا » على أحد امتناعي « لو » والامتناع نفي في المعنى، والنَّفي إذا دخل على النَّفي صار إيجاباً، فمن [ ثمَّ ] صار معنى « لولا » هذه يمتنع بها الشيء لوجود غيره وهذا تكلْف ما لا فائدة فيه، وتكون « لولا » أيضاً حرف تحضيض فتختص بالأفعال، وسيأتي الكلام علهيا إن شاء الله تعالى.
و « لولا » هذه تختص بالمبتدأ، ولا يجوز أن يليها الأفعال، فإن ورد ما ظَاهِرُهُ ذلك أُوِّل؛ كقوله :[ الوافر ]

٥٥٨وَلَوْلاَ يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزاً لَمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالي
وتأويله أن الأصل :« ولولا أن تحسبوا » فلما حذفت أن ارتفع الفعل؛ كقوله :[ الطويل ]
٥٥٩ أَلاّ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الوَغَى .....................
أي :« أَنْ أَحْضُرَ ».
والمرفوع بعدها مبتدأ خلافاً للكسائي حيث رفعه بفعل مضمر، وللفراء حيث قال :« مرفوع بنفس لولا ». وخيره واجب الحذف للدلالة عليه وسد شيء مسده وهو جوابها والتقدير : ولولا فَضْل الله كائن أو حاصل، ولا يجوز أن يثبت إلا في ضرورة شعر، ولذلك لُحِّنَ المعرِّيُّ في قوله :[ الوافر ]
٥٦٠ يُذِيبُ الرُّعْبُ مِنْهُ كُلَّ عَضْبٍ فَلَوْلاَ الغِمْدُ يُمْسِكُهُ لَسَالاَ
حيث أثبت خبرها بعدها، هكذا أطلقوا، وبعضهم فَصَّل فقال : إن كان خبر ما بعدها كونناً مطلقاً، فالحذف واجب، وعليه جاء التنزيل وأكثر الكلام، وإن كان كوناً مقيداً فلا يخلو إما أن يدلّ عليه دليل أوْ لا، فإن لم يدلِّ عليه دليل، وجب ذكره؛ نحو قوله عليه الصَّلاة والسَّلام :


الصفحة التالية
Icon