والثَاني : إن يكون « خاسئين » نعتاً ل « قردة » قاله أبو البقاء. وفيه نظر من حيث إنّ القردة غير عقلاء، وهذا جمع العقلاء.
فإن قيل : المخاطبون عقلاء؟ فالجواب : أنّ ذلك لا يفيد؛ لأن التقدير عندكم حينئذ : كونوا مثل قدرة من صفتهم الخُسوء، ولا تعلّق للمخاطبين بذلك، إلا أنه يمكن أن يقال : إنهم مشبَّهُون بالعقلاء كقوله :﴿ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [ يوسف : ٤ ] و ﴿ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾ [ فصلت : ١١ ].
والثالث : أن يكون حالاً من اسم « كونوا »، والعامل فيه « كونوا »، وهذا عند من يجيز ل « كان » أن تعمل في الظروف [ والأحوال ] وفيه خلاف سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله :﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً ﴾ [ يونس : ٢ ].
الرابع : وهو الأجود أن يكون حالاً من الضمير المُسْتكنّ في « قردة » ؛ لأنه في معنى المشتق أي : كونوا ممسوخين في هذه الحال.
وجمع « فِعْل » على « فِعَلَة » قليل لا يَنْقَاس.
ومادة « القرد » تدلّ على اللُّصوق والسكون، تقول : قَرَد بمكان كذا : لصق به وسكن، ومنه : الصُّوف « الْقَرَد » أي : المتداخل، ومنه أيضاً :« القُرَادُ » هذا الحيوان المعروف ويقال :« خسأته فخَسَاً، فالمتعدي والقاصر سواء نحو : زاد وغاض وقيل : خسأته فخسىء وانسخاً، والمصدر » الخسوء « و » الْخَسْء «.
وقال الكسائي :»
خسأت الرجل خسأ، وخسأ هو خسوءاً «، ففرق بين المصدرين.
والخسوء : الذّلة والصَّغار والطرد والبعد، ومنه : خسأت الكلب قال مجاهد وقتادة والربيع : وهي لغة »
كنانة «.
وقال أبو روق : يعني خرساً لقوله تعالى :﴿ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٨ ] والمراد من هذا الأمر سرعة التكوين لا نفس الأمر. روي عن مجاهد رضي الله عنه أن الله تعالى مسخ قلوبهم يعني : بالطَّبع والخَتْم، إلا أنه مَسَخَ صورهم لقوله ﴿ كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾ [ الجمعة : ٥ ] وهذا مَجَاز ظاهر [ مشهور ].

فصل في المقصود من ذكر هذه القصة


والمقصود من ذكر هذه القصّة أمران :
الأول : إظهار معجزة سيدنا محمد ﷺ لأنه كالخطاب لليهود الذي كانوا في زمانه، أخبرهم عليه الصَّلاة والسَّلام عن هذه الواقعة مع أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب، ولم يخالط القوم دلّ على أنه إنما عرفه بالوحي.
والثاني : أنه تعالى لما أخبرهم بما عاجل به أصحاب السَبت، فكأنه يقول لهم : لا تتمردوا و لاتغتروا بالإمهالن فينزل بكم ما نزل بهم، ونظيره قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ ﴾ [ النساء : ٤٧ ] الآية.
فإن قيل : إنهم بعد أن صاروا قدرةً لا يبقى لهم فَهْم، ولا عَقْل، ولا علم، فلا يعلمون ما نزل بهم من العذاب، ووجود القرديّة غير مؤلم.


الصفحة التالية
Icon