فصل في الباعث على تعجبهم


القوم إنما قالوا ذلك؛ لأنهم لما طلبوا من موسى عليه الصلاة والسَّلام تعيين القاتل، فقال موسى عليه الصّلاة والسلام : اذبحوا بقرة فلم يفرقوا، وبين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة، فظنوا أنه عليه الصَّلاة والسَّلام يُدَاعبهم؛ لأنه من المحتمل أن يكون عليه الصَّلاة والسَّلام أمرهم بذبح البقرة، ولم يعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة، وضربوا القتيل ببعضها يصير حياً، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء، ويحتمل أنه ﷺ بيّن لهم كيفية الحال إلاّ أنهم تعجّبوا من [ أن ] القتيل كيف يصير حيًّا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة، وظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء.
نقل القرطبي عن المَاوَرْدَيّ قال :« وإنما أمروا والله أعلم بذبح بقرة دون غيرها؛ لأنها من جنس ما عبدوه من العِجْل ليُهَوِّن عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته ».
وهذا المعنى علّة في ذبح البقرة، وليس بعلّة في جواب السَّائل، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حَيّ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها.

فصل في بيان هل كفر قوم موسى بسؤالهم ذلك؟


قال بعضهم : إن أولئك الأقوام كفروا بقولهم لموسى ﷺ : أتتخذنا هزوًا، لأنهم إن قالوا لموسى ذلك لأنهم شكّوا في قدرة الله تعالى على إحياء الميت فهو كفر، وإن شكّوا في ذلك أن الذي أمرهم به موسى ﷺ هل هو بأمر الله، فقد جَوْزوا الخيانة على موسى عليه الصَّلاة والسِّلام في الوحي، وذلك أيضاً كفر، ومن ا لناس من [ قال ] : إنه لا يوجب الكفر لوجهين :
الأول : أن المداعبة على الأنبياء جائزة، فلعلهم ظنوا أنه عليه الصَّلاة والسَّلام يداعبهم مُدَاعبة حقّه، وذلك لا يوجب الكفر.
والثاني : أن معنى قوله :« أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً » أي : ما أعجب هذا الجواب، كأنك تستهزىء بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء.
قوله :« أَعُوذُ بِالله » تقدم إعرابه في الاستعاذة.
وهذا جواب لاستفهامهم في المعنى، كأنه قال لا أهزأ مستعيذاً بالله من ذلك فإن الهازىء جاهل، فلم يستعذ موسى ﷺ من الشَّيء الذي نسبوه إليه، لكنه استعاذة من السَّبب الموجب له، كما يقول : أعوذ بالله من عدم العَقْل؛ وغلبة الهَوَى، والحاصل أنه أطلق اسم السّبب على المسبب مجازاً.


الصفحة التالية
Icon