ولما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ الدَّال صار التمني كالمبدأ للكذب فعبر عنه.
ومنه قوله عثمان :« ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت ».
وقال الزمخشري : والاشتقاق من منَّى : إذا قدَّر؛ لأن المتمني يُقَدِّرُ في نفسه، ويَحْزر ما يتمناه، وكذلك المختلق، والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا، فجعل بين هذه المعاني قدراً مشتركاً وهو واضح.
وقال أبو مسلم : حَمْله على تمني القلب أولى بقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾ [ البقرة : ١١١ ].
وقال الأكثرون : حمله على القراءة أليق؛ لأنا إذا حَمَلْنَاه على ذلك كان له به تعلّق، فكأنه قال : لا يعلمون الكتاب إلاَّ بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه، ثم إنَّهُمْ لا يتمكّنون من التدبُّر والتأمل، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادراً.
قوله :﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ « إن » نافية بمعنى « ما » وإذا كانت نافية المشهور أنها لا تعمل عمل « ما » الحِجَازية.
وأجاز بعضهم ذلك ونسبه لسيبويه، وأنشد :[ المنسرح ]
٦٠٦ إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً عَلَى أَحَدٍ | إلاَّ عَلَى أَضْعَفِ المَجَانِينِ |
فقوله :« هم » في محل رفع الابتداء لا سام « إن » لأنها لم تعمل على المشهور، و « إلا » للأستثناء المفرغ، ويظنون في محلّ الرفع خبراً لقوله « هم ».
وحذف مفعولي الظَّن للعمل بهما واقتصاراً، وهي مسألة خلاف.
فصل في بطلان التقليد في الأصول
الآية تدلّ على بطلان التقليد.
قال ابن الخطيب : وهو مشكل؛ لأن التقليد في الفروع جائز عندنا.
قوله :﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب ﴾ « ويل » مبتدأ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة، لأنه دعاء عليهم، والدعاء من المسوغات، سواء كان دعاء له نحو :« سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ » أو دعاء عليه كهذه الآية، والجار بعده الخبر، فيتعلّق بمحذوف.
وقال أبو البقاء : ولو نصب لكان له وجه على تقدير : ألزمهم الله ويلاً، واللام للتبيين؛ لأن الاسم لم يذكر قبل المصدر يعني : أن اللام بعد المنصوب للبيان، فيتعلّق بمحذوف. وقوله : لأن الاسم لم يذكر قبل، يعني أنه لو ذكر قبل « ويل » فقلت :« ألزم الله زيداً ويلاً » لم يحتج إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر. وعبارة الجرمي توهم وجوب الرفع في المقطوع عن الإضافة؛ ونصّ الأخفش على جواز النّصب، فإنه قال : ويجوز النصب على إضمار فعل أي : ألزمهم الله ويلاً.
واعلم أن « وَيْلاً » وأخواته وهي :« وَيْح » و « وَيْس » و « وَيْب » و « وَيْه » و « ويك » و « عَوْل » من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها، وتلك الأَفْعَال واجبة الإضمار، لا يجوز إظهارها ألبتة؛ لأنها جعلت بدلاً من اللفظ بالفعل، وإذا فصل عن الإضافة فالأحسن فيه الرفع نحوك « ويل له » وإن أضيف نصب على ما تقدم، وإن كانت عبارة الجرمي توهم وجوب الرفع عند قَطْعه عن الإضافة، فإنه قال : فإذا أدخلت اللاّم رفعت فقلت :« ويل له » و « ويح له » كأنه يريد على الأكثر، ولم يستعمل العرب منه فعلاً؛ لاعتلال عنيه وفائه.