الثاني أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله تارةً للاستغراق، وأخرى للبعض، فإن أكثر العمومات مخصوصة، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص، وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أن يفيد الاستغراق أو لا يفيد.
الثالث : أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها؛ لأن تحصيل الحاصل مُحَال، فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا مَحَالة، سلمنا أنها تفيد معنى ولكن إفادة قطعية أو ظنية، والأول ممنوع وباطل قطعاً؛ لأن من المعلوم بالضرورة أنَّ الناس كثيراً ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل، والجمع على سبيل المبالغة كقوله تعالى :﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [ النمل : ٢٣ ] وإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية، سلّمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية، ولكن لا بد من اشتراط أَلاَّ يوجد شيء من المخصصات، فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام، فلم قلتم : إنه لم يوجد شيء من المخصصات؟ أقصى ما في الباب أن يقال : بحثنا فلم نجد شيئاً من المخصصات، لكن عدم الوِجْدَان لا يدلّ على عدم الوجود.
وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات، وهذا الشرط غير معلوم [ كانت الدلالة متوقفة على شرط غير معلوم ] فوجب ألاَّ تحصل الدلالة، ومما يؤكد هذا قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ البقرة : ٦ ] حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون، ثم إنا شاهدنا قوماً منهم قد آمنوا، فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين :
إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول، أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى، إلاَّ أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول ﷺ كانوا يعلمون من أجلها أ، مراد الله تعالى من هذا العموم هو الخصوص، وأما ما كان هناك فَلِمَ يجوز مثله هاهنا؟ سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص لكن آيات العفو مخصصة لها، والرجحان معنا؛ لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام، والخاصّ مقدم على العام لا محالة، سلّمنا أنه لا يوجد المخصّص، ولكن عمومات الوعيد مُعَارضة بعمومات الوعد، ولا بدّ من الترجيح، وهو معنى من وجوه :
أحدها : أنَّ الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد.
الثاني : أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى.
الثالث : أن الوعيد حق الله تعالى والوعد حق العبد، وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى، سلّمنا أنه لم يوجد المعارض، ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكُفَّار، فلا تكون قاطعة في العمومات.


الصفحة التالية
Icon