فإن قيل : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب.
قلنا : هَبْ أنه كذلك، ولكن لما رأينا كثيراً من الألفاظ العامة وردت في الأسباب الخاصة، والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أنّ إفادتها للعموم لا تكون قوية. والله أعلم.
فهذا أصل البَحْث في دلائل الفريقين، وأما دلائل الفريقين من الكتاب والسُّنة فكثيرة، فمنها على هذه الأصل حجّة من قال بالعفو في حق العبد، [ وبعض ] الآيات الدالة على أنه تعالى غفور رحيم غافر غفار، وهذا لا يحسن إلاّ في حق من يستحق العذاب.
[ فإن قيل ] : لم لا يجوز حمله على تأخير العِقَابِ كقوله في قصة اليهود :﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ ﴾ [ البقرة : ٥٢ ] والمراد تأخير العقاب إلى الآخرة، وكذا قوله :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ [ الشورى : ٣٠ ] وكذا قوله :﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ﴾ [ الشورى : ٣٤ ].
فالجواب : العفو أصله الإزالة من عَفَا أمره كما قال تعالى :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ] وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم، بل الإسقاط المطلق، فإن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال : إنه عفى فيه، ولو أسقطه يقال : إنه عفى عنه.
الثانية : قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النساء : ٤٨ ] وهذا يتناول صاحب [ الصغيرة وصاحب الكبيرة ] قبل التوبة؛ لأن الغفران للتائبين وأصحاب الصغائر واجب غير معلّق على المشيئة.
فإن قيل : لا نسلم أن تلك المغفرة تدلّ على أنه تعالى لا يعذب العُصَاة في الآخرة؛ لأن المغفرة إسقاط العقاب، وهو أعم من إسقاطه دائماً أو لا دائماً واللفظ الموضوع بإزار القَدْرِ المشترك لا إشعار له بكل واحد، فيجوز أن يكون المراد أن الله تعالى لا يؤخر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء، ويؤخر عقاب ما دون ذلك في الدنيا لمن يشاء. فحصل بذلك تخويف كل الفريقين.
سلمنا أنَّ الغفران عبارة عن الإسقاط على الدوام، فلم لا يمكن حمله على مغفرة التائب، ومغفرة صاحب الصغيرة؟
وأيضاً لا نسلم أن قوله :« مَا دُونَ ذَلِكَ » يفيد العموم لصحة إدخال لفظ « كل » و « بعض » على البدل، [ مثل أن ] يقال : ويغفر كل ما دون ذلك، وهو يمنع العموم.
سلمنا أنه للعموم، ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة.
فالجواب : أما إذا حملنا المغفرة على التأخير، وجب أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر [ من عقاب المؤمنين ]، وإلاَّ لم يكن في التفضيل فائدة، وليس كذلك لقوله تعالى :﴿ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ ﴾ [ الزخرف : ٣٣ ].
قوله : لم قلتم : إن قوله :« مَا دُونَ ذَلِكَ » يفيد العموم؟
قلنا : لأن قوله « ما » تفيد الإشَارَة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك وهذه الماهيّة ما هية واحدة، وقد حكم قطعاً بأنه يغفرها، ففي كل صغيرة متحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران.