وحكي عن العرب :« مُرْهُ يَحْفِرَهَا » أي : بأن يحفرها، والتقدير : عن أن يحضر، أو بأن يحفرها، وفيه نظر، فإن [ إضمار ] « أن » لا ينقاس، إنما يجوز في مواضع عدها النحويون، وجعلوا ما سواها شاذّاً قليلاً، وهو الصحيح خلافاً للكوفيين، وإذا حذفت « أن »، فالصحيح جواز [ النصب والرفع ]، وروي « مُرْهُ يَحْفِرهَا » و « أحضر الوَغَى » بالوجهين، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافاً لأبي الحسن، حيث التزم رفعه.
وأيد الزمخشري هذا الوجه الرابع بقراءة عبد الله :« لاَ تَعْبُدُوا » على النهي، قال : إلاَّ أنه جاء على لفظ الخبر لقوله تعالى :﴿ لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ]، قال : والذي يؤكد كونه نهياً [ قوله :« وأقيموا الصلاة » ] فإنه تنصره قراءة عبد الله وأُبي :« لا تعبدوا ».
الخامس : أن يكون في محلّ نصب بالقول المحذوف، وذلك القول حال تقديره : قائلين لهم : لا تعبدون إلا الله، ويكون خبراً في معنى النهي، ويؤيده قراءة أُبَي المتقدمة، ولهذا يصح عطف « قُولُوا » عليه، وبه قال الفَرّاء.
السادس : أَنَّ « أنْ » الناصبة مضمرة كما تقدم، ولكنها هي وما في حَيّزها في محلّ نصب على أنها بدل من « مِيْثَاق : ، وهذا قريب من القول الأول من حيث إن هذه الجملة مفسرة للميثاق، وفيه النظر المتقدم أعني حذف أن في غير المواضع المقيسة.
السابع : أن يكون منصوباً بقول محذوف، وذلك القول ليس حالاً، بل مجرد أخبار، والتقدير : وقلنا لهم ذلك، ويكون خبراً في معنى النهي.
قال الزمخشري : كما تقول : تذهب إلى فلان تقول له : كذا تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي؛ لأنه كأنه سُورعَ إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه، وتَنْصره قراءى عبد الله وأُبَيّ :»
لاَ تَعْبُدُوا « ولا بد من إرادة القول بهذا.
الثامن : أن يكون التقدير :»
ألاَّ تَعْبُدُونَ « وهي » أن « المفسرة؛ لأن في قوله : أخَذْنَا مِيْثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ » إيهاماً كما تقدم، وفيه معنى القول، ثم حذف « أن » المفسرة، ذكره الزَّمخشري.
وفي ادعاء حذف حرف التفسير نظر لا يخفى.
قوله :« إِلاَّ اللهَ » استثناء مفرغ؛ لأن ما قبله مفتقر إليه وقد تقدم تحقيقه أولاً.
وفيه التفات من التكلّم إلى الغيبة، إذ لو جرى الكَلاَم على نسقه لقيل : لا تعبدون إلاَّ إيانا، لقوله :« أَخّذْنَا ».
وفي هذا الالتفات من الدّلالة على عظم هذا الاسم والتفرد به ما ليس في المضمر، وأيضاً الأسماء الواقعة ظاهرة، فناسب أن يجاوز الظاهرُ الظاهرَ.

فصل في مدلول « الميثاق »


هذا الميثاق يدلّ على تمام ما لا بد منه في الدينن لأنه تعالى لما أمر بعبادته، ونهى عن عبادة غيره، وذلك مسبوق بالعِلْمِ بذاته سبحانه، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه، وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة الَّتِي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوَحْي والرسالة، فقوله :« لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ » يتضمّن كلّ ما اشتمل عليه الكلام والفقه والأحكام.


الصفحة التالية
Icon