ثم قال ابن الخطيب : الآية تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون المُرَاد من تقدم من بني إسرائيل، لأنه تعالى قد سَاقَ الكلام الأول في إظهار النعم بإقامة الحجج ثم بيّن بعد أنهم تولوا إلا قليلاً، فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه، فإنّ أول الكلام في المتقدمين، فالظاهر يقتضي أن آخره فيهم، إلا بدليل يوجب الانصراف عن الظاهر.
وثانيها : أنه خطاب للحاضرين في عصر النبي ﷺ، يعني : أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أَسْلاَفكم؛ لأنه خطاب مشافهة، وهو بالحاضرين أليق.
وثالثها : أن يكون المراد بقوله :« ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ » من تقدم؛ لأنه تعالى لما بين أنه تعالى أنعم عليهم بتلك النّعم ثم تولّوا عنها بعد ذلك كان ذلك دالاًّ على نهاية قبح أفعالهم، ويكون قوله : وأنتم معرضون مختصاً بمن كان في زمان النبي ﷺ أي : انكم بمنزلة المتقدّمين الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق، فإنكم بعد إطّلاعكم على صدق دلائل النّبيّ ﷺ أعرضتم عنه، فكنتم بهذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين [ الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق بذلك الشِّرك ] في ذلك التولي والله أعلم.
و « قليلاً » منصوب على الاستثناء؛ لأنه من موجب.
وقال القرطبي : المستثنى عند سيبويه منصوب؛ لأنه مشبه بالمَفْعُول.
وقال محمد بن يزيد : هو المفعول حقيقة؛ لأن معناه : استثنيت قليلاً.
وروي عن أبي عمرو وغيره :« إلاَّ قَلِيلٌ » بالرفع، وفيه ستّة أقوال :
أصحها : أن رفعه على الصفة بتأويل « إلاّ » وما بعدها بمعنى « غَيْر »، وقد عقد سيبويه رحمه الله في كتابه لذلك باباً فقال :« هذا باب ما يكن فيه » إلاَّ « ما بعدها وصفاً بمنزلة غَيْر ومثل » وذكر من أمثلة هذا الباب :« لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنَا » و ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ].
قال الطويل :

٦٢٣.................. قَلِيلٌ بِهَا الأَصْوَاتُ إِلاَّ بُغَامُهَا
وسَوَّى بين هذا وبين قراءة :﴿ لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر ﴾ [ النساء : ٩٥ ] برفع « غير » وجوز في نحو :« ما قام القومُ إلا زيدٌ » بالرفع البدل والصِّفةن وخرج على ذلك قوله :[ الوافر ]
٦٢٤ وَكُلّ أخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الفَرْقَدَانِ
كأنه قيل :« وكلُّ أخٍ غيرُ الفَرْقَدَين مُفَارِقُهُ أخُوهُ » ؛ كما قال الشَّمَّاخ :[ الطويل ]
٦٢٥ وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ لِوَصلِ خَلِيلٍ صَارٍمٌ أَو مُعَارِزُ
وأنشد غيره :[ الرمل ]
٦٢٦ لِدَمٍ ضَائِعٍ تَغَيَّبَ عَنْهُ أَقْرَبُوهُ إلاَّ الصَّبَا والجَنُوبُ
وقوله :[ البسيط ]
٦٢٧ وَبِالصَّرِمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ عَافٍ تَغَيَّرَ إلاَّ النُّؤْيُ والوَتِدُ
والفرق بين الوصف « إلاَّ » والوصْفِ بغيرها أنَّ « إلاَّ » توصف بها المعارفُ والنكرات، والظاهرُ والمضمرُ.
وقال بعضهم :« لا توصف بها إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس، فإنه في قوة النكرة ».


الصفحة التالية
Icon