قال ابن الخطيبك واعلم أنا بَيْنا في تفسير « الغلف » ثلاثة أوجه، فلا يجب الجزم بواحد منها من غير دليل.
سلمنا أن المراد منه ذلك الوجه لكن لم قلتم : إن الآية تدل على أن ذلك القول مذموم؟
فإن قيل : إنما لعنهم الله بسبب هذه المقالة.
فالجواب من وجوه :
أحدها : لا نسلم، بل لعلّه تعالى حكى عن حالهم، أو عنهم قولاً، ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم.
وثانيها : لعلّ المراد من قوله تعالى :« قُلُوبُنَا غُلْفٌ » أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار، يعني : ليس قلوبنا في غلاف ولا في غطاء، بل أفهامنا قويّة، وخواطرنا منيرة، ثم إنا تأملنا في دلائلك فلم نجد شيئاً قويًّا فلما ذكروا هذه الوصف الكاذب لا جَرَمَ لعنهم الله على كفرهم الحاصل بهذا القول.
وثالثها : أن قلوبهم لم تكن في أغْطية، بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد ﷺ كما قال تعالى :﴿ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ [ البقرة : ١٤٦ ] إلاّ أنهم أنكروا تلك المعرفة وادّعوا أن قلوبهم غُلف، فكان كفرهم عناداً.
قوله :« بَلْ لَعَنَهُمْ اللهُ » « بل » : حرف إضراب، والإضراب راجع إلى ما تضمَّنه قولهم من أن قلوبهم غُلْف، فردّ الله عليهم ذلك بأن سببه لعنهم بكفرهم السّابق، والإضراب على قسمين : إبطال، وانتقال.
فالأول، نحو :« ما قام زيد بل عمرو »، والانتقال كهذه الآية، ولا تعطف « بل » إلا المفردات، وتكون في الإيجاب والنفي والنهي، ويزاد قبلها « لا » تأكيداً.
واللَّعن : الطَّرد والبُعْد، ومنه : شأو لَعِينٌ، أي : بعيد؛ قال الشَّمَّاخ :[ الوافر ]
٦٥٣ ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنفَيْتُ عَنْهُ | مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعينِ |
وقال الفارسي : النية به التقدم أي : وقالوا : قلوبنا غلف بسبب كفرهم، فتكون الباء متعلقة ب « قالوا »، وتكون « بل لعنهم » جحملة معترضة، وفيه بُعْد، ويجوز أن تكون حالاً من المفعول في « لعنهم » أي : لعنهم كافرين، أي : ملتبسين بالكُفْرِ كقوله ﴿ وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر ﴾ [ المائدة : ٦١ ].
قوله :« فَقَلِيلاً مَا يؤْمِنُونَ » في نصب « قليلاً » ستة أوجه :
أحدها : أنه نَعْت لمصدر محذوف، أي : فإيماناً قليلاً يؤمنون؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله، ويكفرون بالرسل.
الثاني : أنه حال من ضمير ذلك [ المصدر ] المحذوف، أي : فيؤمنونه أي : الإيمان في حال قلّته، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه، وتقدّم تقريره.
الثالث : أنه صفة لزمان محذوف، أي : فزماناً قليلاً يؤمنون، وهو كقوله :﴿ آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ ﴾