قوله :« واسمعوا » أي أطيعوا وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه، ومنه قولهم : سمع الله لمن حمده، أي قبل وأجاب؛ قال [ الوافر ]

٦٦٧ دَعَوْتُ اللهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ يَكُونَ اللهُ يَسْمَعُ ما أَقُولُ
أي يقبل.
وقال الرَّاجز :[ الرجز ]
٦٦٨ وَالسَّمْعُ والطَّاعة والتَّسْلِيمْ خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ

فصل في التكرار


وفي هذا التكرير وجها :
أحدهما : أنه للتأكيد، وإيجاب الحُجَّة على الخصم.
الثاني : كرره لزيادته على دلالة وهي قولهم :« سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا » [ فرفع الجبل لا شك أنه من أعظم المعجزات، مع ذلك أصرُّوا على كفرهم، وصرحوا بقولهم :﴿ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ [ النساء : ٤٦ ] ].
وأكثر المفسرين ذكروا أنهم قالوا هذا القول.
وقال أبو مسلم : يجوز أن يكون المعهنى سمعوه فقتلوه بالعصيان، فعبر عن ذلك بالقول، وإن لم يقولوه كقوله تعالى :﴿ أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ يس : ٨٢ ] وكقوله :﴿ قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾ [ فصلت : ١١ ] والأول أولى، لأن هذا صَرْف للكلام عن ظاهره بغير حاجة.
قوله :« وأُشْربوا » يجوز أن يكون معطوفاً على قوله. « قَالُوا : سَمِعْنَا »، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل « قالوا » أي : قالوا ذلك، وقد أشربوا. ولا بد من إضمار « قد » ليَقْرُبَ الماضي إلى الحال خلافاً للكوفيين، حيث قالوا : لا يحتاج إليها، ويجوز أن يكون مستأنفاً لمجرد الإخبار بذلك.
واستضعفه أبو البقاء رحمه الله تعالى قال : لأنه قال بعد ذلك :« قل بِئْسَمَا يأمركم » فهو جواب قولهم :« سمعنا وعصينا » فالأولى ألا يكون بينهما أجنبي.
و « الواو » في « أشربوا » وهي المفعول الأول قامت مقام الفاعل، والثاني هو « العِجْل » ؛ لأن « شرب » يتعدّى بنفسه، فأكسبته الهمزة مفعولاً آخر، ولا بد من حذف مُضَافين قبل « العِجْل » والتقدير : وأشربوا حُبَّ العِجْل.
وحسن حَذْفُ هذين المضافين للمبالغة في ذلك حتى كأنه تُصُوِّر إشراب ذات العِجْل، والإشراب مُخَالطة المائع بالجامد، ثم اتّسع فيه حتى قيل في الألوان نحو : أشرب بياضُه حُمْرةً، والمعنى : أنهم دَاخَلَهم حُبُّ عبادته، كما داخلَ الصّبغُ الثوبَ.
ومنه قول الشاعر :[ الوافر ]
٦٦٩ إذّا ما القَلْبُ أُشْرِبَ حُبَّ شَيْءٍ فَلاَ تَأْمَلْ لَهُ الدَّهْرَ انْصِرَافا
وعبر بالشرب دون الأكل؛ لأ، الشرب يَتَغَلْغَلُ في باطن الشيء، بخلاف الأكل فإنه مُجَاور؛ ومنه في المعنى :[ الطويل ]
٦٧٠ جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي في مَفَاصِلِي .......................
وقال بعضهم :[ الوافر ]
٦٧١ تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فُؤَادِي فَبَادِيهِ مَعَ الخافِي يَسِيرُ
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ وَ حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرورُ
أَكَادُ إِذَا ذكَرْتُ العَهْدَ مِنْهَا أَطِيرُ لَوَ أنَّ إِنْسَاناً يَطِيرُ
فهذا وجه الاستعارة.
وقيل : الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذلك كانت تلك المحبة مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.


الصفحة التالية
Icon