وهذا نوع آخر من قبائح أفعالهم، وهو زعمهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون النَّاس، ويدلّ عليه أنه لايجوز أن يقال للخصمك إن كان كذا أو كذا فافعل كذا، والأول مذهبه، ليصحّ إلزام الثاني عليه.
ويدلّ على ذلك أيضاً قولهم :﴿ يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى ﴾ [ البقرة : ١١١ ] وقولهم :﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [ المائدة : ١٨ ] وقولهم :﴿ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ [ البقرة : ٨٠ ].
وأيضاً اعتقادهم في أنفسهم أنهم همم المحقّون؛ لأن النسخ غير جائز في شرعهم، وأن سائر الفرق مبطلون، وأيضاً اعقادهم أن أنتِسَابَهُمْ إلى أكابر الأنبياء علهيم الصلاة والسلام، أعني : يعقوب وإسماعيل وإسحاق وإبراهيم عليه السلام يخصلهم من [ عقاب ] الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه، فكذّبهم الله تعالى وألزمهم الحُجّة، فقال : قل لهم يا محمد : إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجَنّة خالصة من دون النَّاس، فتمنوا الموت : فأريدوه وأسألوه؛ لأن من علم أنا لجنة مَأْواه حنّ إليها؛ لأن نعم الدنياعلى قلّتها كانت منغصةً عليهم بسبب ظهور محمد ﷺ ومنازعته لهم بالجِدَالِ والقتال، ومن كان في النّعم القليلة المنغصة، وهو يتيقّن بعد الموت أنه ينتقل إلى تلك النعم العظيمة، فإنه لا بد وأن يرغب في الموت.
وقيل : إن الله تعالى صرفهم عن إظْهَار التمنِّي، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه ﷺ.
وقيل : فمتنّوا الموت : ادعوا بالموت على الفِرْقَةِ الكاذبة. روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال :« لو تمنوا الموت لشرق كلّ إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلاَّ مات ».
قوله :﴿ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً ﴾ شرط جوابه « فَتَمَنّوا ».
و « الدار » اسم « كان » وهي الجنة، والأولى أن يقدّر حذف مضاف، أي : نعيم الدار الآخرة؛ لأن الدَّار الآخرة في الحقيقة هي انقضاء الدُّنيا، وهي للفريقين. واختلفوا في خير « كان » على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه « خالصة »، فيكون « عند » ظرف ل « خالصة »، أو للاستقرار الذي « لكم » ويجوز أن تكون حالاً من « الدار »، والعامل فيه « كان »، أو الاستقرار.
وأما « لكم » فيتعلق ب « كان » ؛ لأنها تعمل في الظرف وشبيهه.
قال أبو البقاء رحمه الله تعالى : ويجوز أن تكون للتبيين، فيكون موضعها بعد « خالصة » أي : خالصة لكم فتتعلّق بنفس « خالصة »، وهذا فيه نظر؛ لأنه متى كانت للبيان تعلّقت بمحذوف تقديره : أعني لكم، نحو : سُقْياً لك، تقديره : أعني بهذا الدعاء لك، وقد صرح غيره في هذا الموضع بأنها للبيان، وأنها متعلّقة حينئذ بمحذوف كما تقدم، ويجوز أن يكون صفة ل « خالصة » في الأصل قُدْمَ عليها فصار حالاً منها، فيتعلّق بمحذوف.


الصفحة التالية
Icon