وثالثها : ماروى ابن عباس رضي الله عنه أنه ﷺ قال :« لَوْ تَمَنَّوا المَوْتَ لَشَرِقُوا بهِ وَلَمَاتُوا » وقد نطق القرآن بذلك في قوله :﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ﴾ أي : ولو تمنّوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم ردًّا على النبي ﷺ وإبطالاً لحجّته. والحديثان المتقدّمان، وبالجملة الأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا الموت بلغت مبلغ التواتر.
قوله :« وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ » خبر قاطع عن أنّ ذلك لايقع في المستقبل، وهذا إخبار عن الغيب؛ لأن من توفّر الدواعي على تكذيب محمد ﷺ وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر أنهم لا يأتون بذلك، فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضدّه، فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي.
قوله :« أبداً » منصوب ب « يتمنّوه »، وهو ظرف زمان يقع للقليل والكثير، ماضياً كان أو مستقبلاً.
قال القرطبي : كالحين والوقت، وهو هاهنا من أول العمر إلى الموت تقول : ما فعلته أبداً.
وقال الراغب هو عبارة عن مدّة ا لزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان، وذلك أنه يقال : زمان كذا، ولا يقالك أبدُ كذا، وكان من حقّه على هذا ألاَّ يثنى ولا يجمع، وقد قالوا : آباد، فجمعوه لاختلاف أنواعه.
وقيل : آباد لغة مولّدة، ومجيئه بعد « لن » يدلّ على أن نفيها لا يقتضي التأبيد، وقد تقدم غير ذلك، ودعوى التأكيد فيه بعيدة.

فصل في بيان أن بالآية غيبين


واعلم أن هذا أخبار عن غيب آخر، لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد في شيء من الأزمنة، ولاشك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات فهما غَيْبان، وقال هنا :﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ ﴾ [ البقرة : ٩٥ ] فنفى ل « لن »، وفي الجمعة ب « لا » [ قال صاحب « المنتخب » :] وذلك لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك؟ لأن السعادة القُصْوَى فوق مرتبة الولاية؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى، فإنهم ادعوا هنا أنَّ الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وادعوا في سورة « الجمعة » أنهم أولياء لله من دون النَّاس، والسعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب؛ ومرتبة الولاية وإن كانت شريفة إلا أنها لا تراد ليتوسّل بها إلى الجنة، فلما كانت الأولى أعظم لا جَرَمَ ورد النفي ب « لن » ؛ لأنه أبلغ من النفي ب « لا ».
قوله :« بما قَدَّمَتْ أيديهم » بيان للعلّة التي لها لا يتمنّون؛ لأنه إذا علموا سوء طرقهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى عدم تمنّي الموت، وهذه الجملة متعلّقة ب « يتمنّوه »، والباء للسببية، أي : بسبب اجْتِرَاجِهِم العظائم، و « أيديهم » في محلّ رفع حذفت الضمة من الباء لثقلها مع الكسرة.


الصفحة التالية
Icon