‘إما مراعاة لحال الأمر بالقول فَتَسْرُد لفظة بالخطاب كما هو نحو قولك : قل لقومك : لا يهينوك، ولو قلت : لا تهينوني لجاز، ومنه قول الفرزدق :[ الطويل ]
٦٨٤ أَلَمْ تَرَ أَنِّي يَوْمَ جوِّ سُوَيْقَةٍ... دَعَوْتُ فَنَادَتْنِي هُنَيْدَةُ : مَاليَا
فأحرز المعنى ونَكَّبَ عن نداء هندية « ما لك » ؟، وإما لأن ثَمَّ قولاً آخر مضمراً بعد « قل » والتقدير، قل يا محمد : قال الله « من كان عدوًّا لجبريل فإنه نزله على قلبك »، [ وإليه نحا الزمخشري بقوله : جاءت على حكاية كلام الله، قل : ما تكلمت به من قولي : من كان عدوًّا لجبريل، فإنه نزله على قلبك ] فعلى هذا الجملة الشرطية معمولة لذلك القول المضمر، والقول المضمر معمول للفظ « قل »، والظاهر ما تقدم من كون الجملة معمولة للفظ « قل » بالتأويل المذكور أولاً، ولا ينافيه قول الزمخشري، فإنه قصد تفسير المعنى لا تفسير الإعراب. والضمير في « أنه » يحتمل معنيين :
الأول : فإن الله نزل جبريل على قلبك.
الثاني : فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، ودلت الآية على شرف جبريل عليه السلام وذمّ معادية قاله القُرْطبي رحمه الله تعالى.
قوله تعالى :« بإِذْن اللهِ » في محلّ نصب على الحال من فاعل :« نزله » إن قيل : إنهُ ضمير جبريل، أو من مفعوله إن قيل : إن الضمير المرفوع في « نزل » يعود على الله، والتقدير : فإنه نزل مأذوناً له أو معه إذن الله، والإذن في الأصل العلم بالشَّيء، والإيذان، كالإعلام، آذن به : علم به، وآذنته بكذا : أعلمته به، ثم يطلق على التمكين، أذن في كذا : أمكنني منه، وعلى الاختبار، فعلته بإذنك : أي باختيارك، وقول من قال بإذنه أي بتيسّره راجع إلى ذلك.
قال ابن الخطيب : تفسير الإذن هُنا بالأمر أي بأمر الله، وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه :
أولها : أنَّ الإذن حقيقة في الأمر، ومجاز في العلم، واللَّفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن.
وثانيها : أن إنزاله كان من الواجبات، والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم.
وثالثها : أن ذلك الإنزال إذا كان من أمر لازم كان أوكد في الحجة.
قوله تعالى :« مُصَدِّقًا » حال من الهاء في « نزّله » إن كان يعود الضمير على القرآن، وإن عاد على جبريل ففيه احتمالان :
أحدهما : أن يكون من المجرور المحذوف لفهم المعنى، والتقدير : فإن الله نزّل جبريل بالقرآن مصدقاً.
الثاني : أن يكون من جبريل بمعنى مصدقاً لما بين يديه من الرسل، وهي حال مؤكدة، والهاء في « بين يديه » يجوز أن تعود على « القرآن » أو على « جبريل ».
وأكثر المفسرين على أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام لا يخصّ كتاباً دون كتاب، ومنهم من خصَّه بالتوراة، وزعم أنه إشارة إلى أن القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد ﷺ.