فإن قيل : أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكُتب فلم صار مصدقاً لها؟
فالجواب : أنها كلها متوافقة في الدلالة على التوحيد واصول الدين.
قوله تعالى :« هُدًى وَبُشْرى » حالان معطوفان على الحال قبلهما، فهما مصدران موضوعان موضع اسم الفاعل، أو على المبالغة أو على حَذْف مضاف أيك ذا هدى و « بشرى » ألفها للتأنيث، وجاء هذا التَّرتيب اللفظي في هذه الأحوال مطابقاً للترتيب الوجودي، وذلك أنه نزل مصدّقاً للكتب؛ لأنها من ينبوع واحد، وحصلت به الهداية بعد نزوله، وهو بشرى لمن حصلت له به الهداية، وخصّ المؤمنين، لأنهم المنتفعون به دون غيرهم، كقوله : بشرى للمتقين، أو لأن البشرى لا تكن إلاَّ للمؤمنين؛ لأن البُشْرَى هي الخبر الدَّال على الخير العظيم، وهذا لا يحصل إلا للمؤمنين.
قوله تعالى :« مَنْ كَانَ عَدُوًّا » : الكلام في « مَنْ » كما تقدم، إلاَّ أن الجواب هنا يجوز أن يكون ﴿ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾.
فإن قيل : وأين الرَّابط؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن الاسم الظاهر قام مقام المضمر، وكان الأصل : فإن الله عَدُوّ لهم، فأتى بالظَّاهر تنبيهاً على العلة.
والثاني : أن يراد بالكافرين العموم، والعموم من الرَّوَابط، لاندراج الأول تحته، ويجوز أن يكون محذوفاً تقديره : من كان عدوّاً لله فقد كفر ونحوه.
وقال بعضهم : اواو في قوله :﴿ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ بمعنى « أو »، قال : لأن نم عادى واحداً من هؤلاء المذكورين، فالحكم فيه كذلك.
وقال بعضهم : هي للتفضيل، ولا حاجة إلى ذلك، فإن هذا الحكم معلوم، وذكر جبريل ميكال بعد اندراجهما أولاً تنبيهٌ على فضلهما على غيرهما من الملائكة، وهكذا كُلْ ما ذكر خاص بعد عام، ويحتمل أن يكون أعاد ذكرهما بعد اندراجهما؛ لأن الذي جرى بين الرَّسول وبين اليهود هو ذكرهما، والآية إنما نزلت بسببهما، فلا جَرَمَ نصّ على اسميهما، واعلم أنَّ هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة، وبعضهم يسمى هذا النوع بالتجريد، كأنه يعني به أنه جرد من العموم الأول بعض أفراده اختصاصاً له بمزية، وهذا الحكم أعني ذكر الخاصّ بعد العام مختصّ بالواو و لايجوز في غيرها من حروف العطف.
وجعل بعضهم مثل هذه الآية أعني : في ذكر الخاصّ بعد العام تشريفاً له قوله :﴿ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾ [ الرحمن : ٦٨ ] وهذا فيه نظر، فإن « فاكهة » من باب المطلق؛ لأنها نكرة في سياق الإثبات، وليست من العموم في شيء، فإن عنى أن اسم الفاكهة يطلق عليهما من باب صِدْق اللَّفظ على ما يحتمله، ثم نص عليه فصحيح، وأتى باسم الله ظاهراً في قوله :« فإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ » ؛ لأنه لو أُضمر فقيل :« فإنه » لأوهم عوده على اسم الشرط، فينعكس المعنى، أو عوده على ميكال؛ لأنه أقرب مذكور.