الثاني : أنها حال من الشياطين، وردّه أبو البقاء رحمه الله تعالى بأن « لكن » لا تعمل في الحال، وليس بشيء فإن « لكن » فيها رائحة الفعل.
الثالث : أنها في محلّ رفع على أنها خبر ثان للشياطين.
الرابع : أنها بَدَلٌ من « كفروا » أبدل الفعل من الفعل.
الخامس : أنها استئنافية، أَخْبر عنهم بذلك، وهذا إذا أعدنا الضمير من « يعملون » على الشَّيَاطين.
أما إذا أعدناه على « الذين اتَّبَعُوا ما تتلو الشَّياطين » فتكون حالاص من فاعل « اتبعوا ».
أو استئنافية فقط.
والسِّحْر : كلّ ما لَطف ودَقَّ سِحْرُهُ، إذا أَبْدَى له أمرأ يدقُّ عليه ويخفى.
قال :[ الطويل ]

٦٩٦................ أَدَاءُ عَرَانِي مِنْ حُبَابِكِ أمْ سِحْرُ
ويقال : سَحَرَهُ : أي خَدَعَهُ وعلَّله؛ قال امرؤ القيس :[ الوافر ]
٦٩٧ أَرَانَا مُوضِعِينَ لأَمْرٍ غَيْبٍ ونُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وبِالشَّرَابِ
أي : نُعَلَّلُ، وهو في الأصل : مصدر يقال : سَحَرَهُ سِحْراً، ولم يجىء مصدر ل « فَعَلَ » يَفْعَلُ على فِعْلٍ إلا سِحْراً وَفِعْلاً.
والسَّحر بالنصب هو الغذاء لخائه ولطف مَجَاريه، والسّحر هو الرئة وما تعلق بالحُلْقُوم [ ومنه قول عائشة رضي الله عنها توفي رسول الله ﷺ بين سحري ونحري ] وهذا أيضاً يرجع إلى معنى الخفاء.
ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين ﴾ [ الشعراء : ١٥٣ ] ﴿ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ [ الشعراء : ١٥٤ ]، ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا.
وقال تعالى :﴿ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم ﴾ [ الأعراف : ١١٦ ].
وقال تعالى :﴿ وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى ﴾ [ طه : ٦٩ ]، والسّحر في عرف الشرع مختصّ بكل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التَّمويه والخداع، وهو عند الإطلاق يذم فاعله، ويستعمل مقيداً فيما يمدح وينفع، فقال رسول الله صلى الله عليه « إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً ».
فسمى النبي ﷺ بعض البيان سحراً؛ لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه، ويبلغ عبارته، فعلى [ هذا ] يكون قوله ﷺ :« إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً » خرج مخرج المدح.
وقال جماعة من أهل العلم : خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة، إذ شبهها بالسّحر يدلّ عليه قوله ﷺ :« فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ».
وقوله ﷺ :« إنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَفَيْهِقُونَ ».
[ الثرثرة : كثرة الكلام وتردده، يقال : ثرثر الرجل فهو ثَرْثار مِهْذَار والمتفيهق نحوه ] قال ابن دريد : فلان يتفيهق في كلامه إذا توسّعوتنطَع، قال :« وأصله الفَهْقُ، وهو الامتلاء كأنه ملأ به فمه ».
قال القرطبي رحمه الله تعالى : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان، فقالا : أما قوله صلى لله عليه وسلم :« إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً »، فالرجل عليه الحق وهو ألحن بالحُجَج من صاحب الحقّ [ فيسحر ] القوم ببيانهن فيذهب بالحق، وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسان ما لم تخرج إلى جدّ الإسهاب والإطناب، وتصوير الباطل في صورة الحق.


الصفحة التالية
Icon