الثالث : لفظ « الغيب » إنما يجوز إطلاقه على من يجوز الحُضُور، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله -تعالى- وصفاته، فقوله :« الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ » لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذت الله وصفاته، ولا ينبغي فيه الإيمان بالآخرة، وذلك غَيْرُ جائز؛ لأن الركن الأعظم هو الإيمان بذات الله وصفاته، فكيف يجوز حمل اللّفظ على معنى يقتضي خروج الأصل؟
أما على قولنا فلا يلزم خذا المحذور.
والجواب عن الأول : أن قوله :« يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ » الإيمان بالغائبات على الإجمال، ثم إن قوله بعد ذلك :« وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ » يتناول الإيمان ببعض الغائبات، فكان هذا من باب عَطْفِ التَّفصيل على الجملة، وهو جائز كقوله :﴿ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ].
وعن الثاني : لا نزاع في أننا نؤمن بالأشياء الغائبة عنَّا، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين جميعاً.
فإن قيل : أفتقولون : العبد يعلم الغيب أم لا؟
قلنا : قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل، وإلى ما لا دليل عليه.
أما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن نقول : نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل، وعلى هذا الوجه قال العلماء : الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة.
وعن الثالث : لا نسلّم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلاَّ فيما يجوز عليه الحُضُور، والدَّليل على ذلك أنّ المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشَّاهد، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته، والله أعلم.
واختلفوا في المراد ب « الغيب ».
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :« الغيب -ها هنا- كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل : الملائكة والبَعْث والجَنّة والنَّار والصِّراط والمِيزَان ».
وقيل : الغيب هاهنا هو الله تعالى.
وقيل : القرآن.
وقال الحسن : الآخرة.
وقال زرُّ بن حبيش، وابن جريج : بالوحي.
ونظيره :﴿ أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب ﴾ [ النجم : ٣٥ ] قال ابن كيسان : بالقدر.
وقال عبد الرحمن بن يزيد : كنا عند عبد الله بن مَسْعُودٍ، فذكرنا أصحاب رسول الله - ﷺ - وما سبقوا به، فقال عبد الله : إن أمر محمدا كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قطّ أفضل من إيمان الكتب، ثم قرأ :« الم ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ » إلى قوله « المفلحون ».
وقال بعض الشيعة : المراد بالغيب المَهْدي المنتظر.
قال ابن الخطيب :« وتخصص المطلق من غير دليل باطل ».
قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو وورش :« يُؤمِنُونَ »، بترك الهمزة.
ولذلك يترك أبو جعفر كل همزة ساكنة إلاّ في ﴿ أَنبِئْهُمْ ﴾ [ البقرة : ٣٣ ]، و ﴿ يُنَبِّئُهُمُ ﴾ [ المائدة : ١٤ ]، و ﴿ نَبِّئْنَا ﴾ [ يوسف : ٣٦ ].
ويترك أبو عمرو كلها، إلا أن يكون علامةً للجزم نحو :