وأما الثاني : فهو إِتْعَابٌ لِلْغَيْرِ ابتِداءً، وذلك يُوجِبُ الظُّلْمَ.
الثاني : قالُوا : إنَّ الاشتغالَ بهذا الحمدِ مُتْعِبٌ للحامدِ، وغيرُ نَافِعٍ للمحمُودِ، لأنه كامِلٌ لذاتِهِ، والكامل [ لذاته ] يستحيل أن يستكملَ بِغَيْره، فثبت أنَّ الاشتغال بهذا التحميدِ عَبَثٌ وضَرَرٌ، فوجب ألا يكونَ مَشروعاً.
الثالثُ : أنَّ مَعْنَى الإِيجَابِ : أنه لَوْ لم يفعل لاسْتَحَقَّ العذابَ، فإيجابُ حَمْدِ الله تعالى معناه : أنه لو لم تشتغلْ بهذا الحمدِ، لَعَاقَبْتُكَ، وهذا الحمدُ لا نفعَ لَهُ في حَقِّ اللهِ تبارك وتعالى، فكان معناه أن هذا الفعلَ لا فَائِدَة فِيه لأحدٍ، ولو تركته [ لعاقبتك ] أَبَدَ الآبادِ، وهذا لا يليقُ بالحَلِيم الكريم.
والفريقُ الثاني : قَالُوا : الاشتغالُ بِحَمْدِ الله -تعالى- سُوءُ أَدَبٍ من وجوه :
الأولُ : أنه يَجْرِي مَجْرَى مقابَلَةِ إحْسَانِ اللهِ بذلك الشُّكر القَلِيلِ.
والثاني : أنَّ الاشتغالَ بالشُّكْرِ لا يتأتى مع استحضارِ تلك النِّعَمِ في القلْبِ، واشتغالُ القلبِ بالنعم يمنعه من الاسْتِغْرَاق في مَعْرِفَة المُنْعِمِ.
والثالثُ : أنَّ الثناءَ على الله -تعالى- عند وُجْدَانِ النِّعْمَةِ يدلُّ على أنه إنَّما أَثْنَى عليه؛ لأجْلِ الفوز بتلك النعم، وهذا الرَّجُلُ في الحَقِيقَةِ مَعْبُوده، ومَطْلُوبُه إنما هو تلك النِّعَمِ، وحظُّ النَّفسِ، وذلك مقامٌ نَازِلٌ.
وهذانِ مَرْدُودانِ بما تَقَدَّمَ وبأنَّ أفعالَهُ وأقوالَه وأسماءَهُ لا مدخل للعَقْلِ فيها، فقد سَمَّى رُوحَه مَاكِراً بقوله تعالى :﴿ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ]، ومتكبراً وغيرَ ذلك ممَّا تقدّم في أسمائه من قوله تعالى :﴿ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٥ ] وغَيْرِه.
فإن قِيل : إنما ورد ذلك مِنْ حيثُ المُقَابلة، قُلْنَا : نُسلِّمُ، ولكنه قد سمى نفسه به، ونحن لا يجوزُ لنا تسميتُهُ به.
وأما مِنْ حَيْثُ ورودُه في الشرع، فقال اللهُ تعالى :﴿ فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [ البقرة : ١٥٢ ].
قولُه تَعَالَى :﴿ رَبِّ العالمين ﴾.
الرَّبُّ : لُغَةً : السيدُ، والمَالِكُ، والثَّابِتُ والمَعْبُودُ؛ ومنه قولُه :[ الطويل ]

٤٦- أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ
والمُصْلِحُ، وزاد بعضُهم أنه بمعنى : الصّاحبِ؛ وأنشد القائل :[ الكامل ]
٤٧- قَدْ نَالَهُ رَبُّ الكِلاَبِ بِكَفِّهِ بِيضٌ رِهَابٌ ريشُهُنَّ مُقزَّعُ
والظاهِرُ أَنَّهُ -هنا- بمعنى المَالِك، فليس هو معنى زائداً.
وقيل : يكون بمعنى الخَالِقِ.
واختُلِفَ فيه : هل هو في الأصلِ وَصْفٌ أو مصدر؟
فمنهم من قال :[ هو وَصْفٌ أي صِفَة مشبهة بمعنى « مُرَبٍّ » ]، ثم اختلف هَؤلاءِ في وزنه. [ فمنهم من قال ] : هو على « فَعِل » كقولك :« نَمَّ- يَنِمُّ- فهو نَمٌّ » من النّمام، بمعنى غَمَّاز.
وقيل : وزنه « فَاعِل »، وأصلُه :« رَابٌّ »، ثم حُذِفت الألفُ؛ لكثرةِ الاستعمالِ؛ لقولِهم : رَجُلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ.


الصفحة التالية
Icon