فصل في معنى فلان آمن بكذا


قال ابن الخطيب : لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدّى ب « الباء » فالمراد منه التصديق.
فإذا قلنا : فلان آمن بكذا، فالمراد أنه صدق به، فلا يكون المراد منه أنه صام وصلى، فالمراد بالإيمان -هاهنا- التصديق، لكن لا بُدّ معه من المعرفة؛ لأن الإيمان -هاهنا- خرج مخرج المدح، والمصدق مع الشّك لا يأمن أن يكون كاذباً، فهو إلى الذَّم أقرب.
و « ما » الثانية وَصِلَتُهَا عطف « ما » الأولى قبلها، والكلام عليها وعلى صِلَتِهَا كالكلام على « ما » التي قبلها، فتأمله.
واعلم أن قوله :« الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ » عام يتناول كل من آمن بمحمد ﷺ، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، أو لم يكن مؤمناً بهما، ثم ذكر بعد ذلك هذه الآية وهي قوله :﴿ والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ [ البقرة : ٤ ] يعني : التوراة والإنجيل؛ لأن في هذا التخصيص مزيد تشريف لهم كما في قوله :﴿ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ]، ثم في تخصيص عبد الله بن سلام، وأمثاله بهذا التشريف ترغيبٌ لأمثاله في الدِّين، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذكر العام.
و « من قبلك » متعلّق ب « أنزل »، و « من » لابتداء الغاية، و « قبل » ظرف زمان يقتضي التقدم، وهو نقيض « بعد »، وكلاهما متى نُكّر، أو أضيف أعرب، ومتى قطع عن الإضافة لفظاً، وأريدت معنى بني على الضم، فمن الإعراب قوله :[ الوافر ]
١٣٢- فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ الْقَرَاحِ
وقال الآخر :[ الطويل ]
١٣٣- وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ فَمَا شَرِبُوا بَعْدَاً عَلَى لذَّةٍ خَمْراً
ومن البناء قوله تعالى :﴿ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ﴾ [ الروم : ٤ ] وزعم بعضهم أن « قبل » في الأصل وصف نَابَ عن موصوفه لزوماً.
فإذا قلت :« قمت قبل زيد » فالتقدير : قمت [ زماناً قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله، وناب عنه قبل زيد ]، وفيه نظر لا يخفى على متأمله.
واعلم أن حكم « فوق وتحت وعلى وأول » حكم « قبل وبعد » فيما تقدّم.
وقرىء :« بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ » مينياً للفاعل، وهو الله -تعالى- أو جبريل، وقرىء أيضاً :« بِمَا أُنْزِلّ لَيْكَ » بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما يكنه الأخر في قوله :[ الرمل ]


الصفحة التالية
Icon