وهذا إنَّما يتمشى على أنَّ « تَتوفَّاهُم » بمعنى المضيِّ؛ ولذلك لم يذكر أبو البقاء في « تَتوفَّاهُم » سواه. قوله ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء ﴾ فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون تفسيراً للسلم الذي ألقوه؛ لأنَّه بمعنى القول؛ بدليل الآية الأخرى :﴿ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول ﴾ [ النحل : ٨٦ ] قاله أبو البقاء، ولو قال : يُحْكى بما هو بمعنى القول؛ لكان أوفق لمذهبِ الكوفيِّين.
الثاني : أن يكون منصوباً بقولٍ مضمرٍ، ذلك القول منصوبٌ على الحالِ، أي : فألقوا السَّلم قائلين ذلك.
و « مِنْ سُوءٍ » مفعول « نَعْملُ » زيدت فيه « مِنْ »، و « بَلَى » جوابٌ ل « مَا كُنَّا نعمل » فهو إيجابٌ له.
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنه : استسلموا، وأقرُّوا لله بالعبودية عند الموت، وقالوا ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء ﴾، والمراد من هذا السوء الشِّرك، فقالت الملائكة تكذيباً لهم ﴿ بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ من التكذيب، والشرك، وقيل : تمَّ الكلام عند قوله :﴿ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ ثم عاد إلى حكايةِ كلام المشركين إلى يوم القيامة، والمعنى : أنَّهم يوم القيامة ألقوا السَّلم؛ وقالوا :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء ﴾ على سبيل الكذب، ثمَّ ههنا اختلفوا : فالذين جوَّزوا الكذب على أهلِ القيامة قالوا : إنَّ قولهم :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء ﴾ لغاية الخوف، والَّذينَ لم يجوِّزوا الكذب عليهم قالوا : المعنى : ما كنَّا نعمل مِنْ سُوءٍ عند أنفسنا وفي اعتقادنا، وقد تقدَّم الكلام في قوله الأنعام :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] هل يجوز الكذب على أهل القيامة، أم لا؟.
وقوله :﴿ بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ يحتمل أن يكون من كلام الله أو بعض الملائكة.
ثم يقال لهم :﴿ فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ وهذا يدلُّ على تفاوت منازلهم في العقاب، وصرَّح بذكر الخلود؛ ليكون الغمُّ [ والحزن ] أعظم.
قوله :« فَلَبِئْسَ » هذه لام التأكيد؛ وإنما دخلت على الماضي لجموده وقربه من الأسماء، والمخصوص بالذم محذوفٌ، أي : جهنَّم.
قوله تعالى :﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً ﴾ الآية.
لما بين أحوال الكافرين، أتبعه ببيان أحوال المؤمنين.
قال القاضي [ المتقي هو :] تارك جميع المحرَّمات وفاعل جميع الواجبات.
وقال غيره : المتَّقي : هو الذي يتَّقي الشرك.
قوله :« خَيْراً » العامة على نصبه، أي : أنزل خيراً.
قال الزمخشريُّ :« فإن قلت : لِمَ رفع » أسَاطِيرُ الأولين « ونصب هذا؟.
قلت : فصلاً بين جواب المقر، وجواب الجاحد، يعني : أنَّ هؤلاء لما سئلوا لم يَتَلعْثَمُوا، وأطبقوا الجواب على السؤال بيِّناً مكشوفاً مفعولاً للإنزال ف » قَالُوا خَيْراً « أي : أنزل خيراً وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال، فقالوا : هو أساطير الأوَّلين، وليس هو من الإنزال في شيءٍ ».