الثاني : أنَّا لو فرضنا إلهين، وحاول أحدهما تحريك جسم، والآخر تسكينه؛ امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني؛ لأنَّ الحركة الواحدة والسكون الواحد، لا يقبل القسمة أصلاً، ولا التفاوت أصلاً؛ وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني؛ وإذا ثبت هذا، امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية، وإذا ثبت هذا، فإمَّا أن يحصل مراد كل منهما، وهو محال، أو لا يحصل مراد كلِّ واحدٍ منهما ألبتَّة؛ وحينئذٍ يكون كل واحدٍ منهما عاجزاً؛ والعاجز لا يكون إلهاً. فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً.
الثالث : لو فرضنا غلهين اثنين، لكان إمَّا أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر، أو لا يقدر، فإن قدر؛ فذلك الآخر ضعيفٌ، وإن لم يقدر، فهو ضعيفٌ.
الرابع : أن أحدهما : إمَّا أن يقوى على مخالفة الآخر، أو لا يقوى عليه، فإن لم يقو عليه، فهو ضعيف، وإذا قوي عليه، فالأول المغلوبُ ضعيف؛ فثبت أنَّ الاثنينيَّة والإلهية متضادان.
فالمقصود من قوله ﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين ﴾ هو التنبيه على حصول المنافاة، والمضادة بين الإلهية، وبين الاثنينية.
ولما ذكر هذا الكلام قال :﴿ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ ﴾، أي : إنه لمَّا دل الدليل على أنَّه لا بد للعالم من الإله، وثبت أنَّ القول بوجود إلهين محالٌ؛ ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد.
ثم قال ﴿ فَإيَّايَ فارهبون ﴾ وهذا رجوعٌ من الغيبة إلى حضور، والتقدير : أنه لما ثبت أنَّ الإله واحد، وأنَّ المتكلم بهذا الكلام إلهٌ؛ ثبت حينئذٍ أنَّه لا إله للعالم إلاَّ المتكلم بهذا الكلام، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور؛ ويقول :﴿ فَإيَّايَ فارهبون ﴾.
قوله تعالى :﴿ { فَإيَّايَ ﴾ منصوب بفعلٍ مضمرٍ مقدَّر بعده، يفسره هذا الظاهر، أي : إيَّاي ارهبوا فارهبون، وقدَّرهُ ابن عطيَّة : ارهبوا إيَّاي، فارهبون.
قال أبو حيَّان : وهو ذهولٌ عن القاعدة النحوية؛ وهي أنَّ المفعول إذا كان ضميراً متصلاً، والفعل متعدِّ لواحدٍ، وجب تأخيرُ الفعل؛ نحو :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [ الفاتحة : ٥ ] ولا يجوز أن يتقدم إلاَّ في ضرورة؛ كقوله :[ الرجز }

٣٣٢٠- إليْكَ حَتَّى بَلغَتْ إيَّاكا وقد مرَّ تقريره أول البقرة.
وقد يجابُ عن ابن عطيَّة : بأنه لا يقبحُ في الأمور التقديريَّة ما يقبحُ في اللفظيَّة.


الصفحة التالية
Icon