واحتجُّوا على أن الإيمان حصل بتخليقِ الله بهذه الآية؛ فقالوا : الإيمانُ نعمة وكلُّ نعمة فهي من الله، فالإيمان من الله تعالى، وأيضاً : فالنعمة عبارة عن كل ما ينتفع به، وأعظم الأشياء نفعاً هو الإيمان، فثبت أنَّ الإيمان نعمةٌ، وكل نعمة فهي من الله؛ لقوله ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ﴾ وهذا اللفظ يفيد العموم، وأيضاً : فالموجود إمَّا واجب لذاته، وهو الله - تعالى - وإما ممكنٌ لذاته، والممكن لذاته، لا يوجد إلا لمرجح؛ إن كان واجباً لذاته، كان حصول ذلك الممكن بإيجادِ الله - تعالى - وإن كان مُمْكِناً لذاته، عاد التقسيمُ الأول فيه والتسلسل؛ وهو محال، فلا بدَّ أن ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته؛ فثبت بهذا أنَّ كل نعمة فهي من الله.
واعلم أنَّ النعم : إمَّا دينيَّة أو دنيويَّة، أما النعمُ الدينية : فهي إمَّا معرفة الحقِّ لذاه، وإما معرفة الخير؛ لأجل العمل به، وأما النعمُ الدنيوية فهي : إمَّا نفسانية، وإما بدنيةٌ، وإما خارجية، وكل واحدٍ من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد؛ كما قال :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ] انتهى.
قوله :﴿ إِذَا مَسَّكُمُ الضر ﴾ قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- : يريد الأسقام، والأمراض، والقحط، والحاجة.
[ قوله ] :﴿ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ الفاء جواب « إذَا » والجُؤارُ : رفع الصَّوت؛ قال رؤبة يصف راهباً :[ المتقارب ]
٣٣٢٨- يُداوِمُ من صَلواتِ المَلِيكِ... طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤار
ومنهم من قيَّده بالاستغاثة؛ وأنشد الزمخشريُّ :[ الكامل ]
٣٣٢٩... - جَأَّرُ سَاعَاتِ النِّيامِ لِربِّهِ
................... وقيل : الجُؤارُ : كالخُوارِ، جَأرَ الثَّوْرُ، وخَارَ : واحِدٌ، إلاَّ أنَّ هذا مهموز العين، وذلك مُعتلها.
وق لالراغب :« جَأرَ إذا أفْرطَ في الدُّعاءِ، والتَّضرُّعِ تَشْبِيهاً بجُؤارِ الوحشيات » وقرأ الزهري :« تَجَرُونَ » محذوف الهمزة، وإلقاء حركتها على الساكن قبلها، كما قرأ نافع :« رِداً » في ﴿ رِدْءاً ﴾ [ القصص : ٣٤ ].
ومعنى الآية : أنَّه - تعالى - بيَّن أن جميع النِّعم من الله، ثم إذا اتفق لأحدٍ مضرةٌ تزيل تلك النعم؛ فإلى الله يستغيث؛ لعلمه بأنَّه لا مفزع للخلق إلا الله، فكأنه - تعالى- قال لهم : فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاءِ، والسلامة.
قوله :﴿ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر ﴾ « إذَا » الأولى شرطية، والثانية : فجائية جوابها، وفي الآية دليل على أنَّ « إذَا » الشرطية لا تكون معمولة لجوابها؛ لأنَّ ما بعد « إذَا » الفجائية لا يعمل فيما قبلها.
[ وقرأ قتادة ] :« كَاشِفٌ » على فاعل. قال الزمخشريُّ :« بمعنى » فعل « وهو أقوى من » كَشَف « لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة ».
قوله :« مِنْكُمْ » يجوز أن يكن صفة ل « فَرِيقٌ »، و « مِنْ » للتبعيض، ويجوز أن يكون للبيان، قال الزمخشريُّ :« كأنه قال : إذا فريقٌ كافرٌ، وهم أنتم ».