قال المفسِّرون : كان الرجلُ في الجاهليَّة إذا ظهر آثار الطَّلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكراً؛ ابتهج به وإن كان أنثى حزن، ولم يظهر أياماً يدبر فيها رأيه ماذا يصنع بها؟ وهو قوله :﴿ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ ﴾، أي : أيحتبسه؟ والإمساك هنا : الحبس، كقوله :﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ] والهُونُ : الهَوان.
قال النضر بن شميلٍ : يقال : إنه أهون عليه هوناً، وهَواناً، وأهَنْتُه هُوناً وهواناً، وقد تقدَّم الكلام فيه في سورة الأنعام عند قوله تعالى :﴿ عَذَابَ الهون ﴾ [ الأنعام : ٩٣ ].
﴿ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب ﴾ والدَّسُ : إخفاءُ الشيء في الشيء، كانت العرب يدفنون البنات أحياء خوفاً من الفقر عليهن، وطمع غير الأكفاءِ فيهنَّ.
قال قيس بن عاصم : يا رسول الله :« إني واريت ثماني بنات في الجاهليَّة، فقال - صلوات الله وسلامه عليه- : أعتِقْ عَنْ كُلِّ واحِدةٍ منهُنَّ رقبة »، فقال : يا نبيَّ الله إنِّي ذُو إبلٍ، فقال - ﷺ - « أهدِ عن كُلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ هَدْياً ».
وروي « أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله : والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أجدُ حلاوة الإسلام منذ أسلمت قد كان لِيَ بنتٌ في الجاهليَّة، وأمرتُ امْرأتي أن تُزيِّنهَا وتطيبها، فأخْرَجتْهَا إليّ فلمَّا انْتهَيْتُ بِهَا إلى وادٍ بَعيدٍ القعْر ألقَيْتُهَا فيهِ، فقالت : يا أبَتِ قَتَلتَنِي، فكُلَّما تَذَكَّرتُ قَوْلهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شيءٌ، فقال ﷺ » مَا كانَ في الجاهليَّة فقد هَدمهُ الإسلامُ، ومَا كَانَ في الإسلامِ يَهدمهُ الاستِغفَارُ «.
واعلم أنَّهم كانوا مختلفين في قتل البنات، فمنهم من يذبحها، ومنهم من يحفر الحفيرة، ويدفنها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبلٍ، ومنهم من يغرقها، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة، وتارة للحميَّة، وتارة خوفاً من الفقر، والفاقة، ولزومِ النَّفقةِ.
وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحسَّ شيئاً من ذلك، وجه إلى والد البنت إبلاً يستحييها بذلك، فقال الفرزدق مفتخراً به :[ المتقارب ]

٣٣٣٠- وعَمِّي الذي مَنعَ الوَائِداتِ وأحْيَا الوئِيدَ فَلمْ تُوءَدِ
﴿ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ ؛ لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات.


الصفحة التالية
Icon