قال البغوي - C- :« تمَّ الكلام عند قوله - تعالى- :﴿ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ ثمَّ ابتدأ فقال :﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة ﴾ ؛ لأنَّ الله - تعالى - جعل هذه الأشياء لهم قبل الخروج من بطون الأمَّهات، وإنَّما أعطاهم العلم بعد الخروج ».
وسيأتي الكلام في حكمة ذكره السمع بلفظ المصدر، والأبصار والأفئدة بلفظ الاسم في سورة السَّجدة إن شاء الله - تعالى-.
وقوله - تعالى- :﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع ﴾، أي لتسمعوا به الأمر والنهي، « والأبْصَارَ » أي : لتبصروا بها آثار منفعة الله، « والأفْئِدةَ » لتصلوا بها إلى معرفته - سبحانه وتعالى - وقوله :﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، أي : نِعَمه.
قوله - تعالى- :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ ﴾ الآية هذا دليلٌ آخر على كمال قدرة الله وحكمته.
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي :« ألَمْ تَروْا » بالتاء من فوق، والباقون : بالياء على الحكاية لمن تقدَّم ذكره من الكفَّار.
قوله :﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ ﴾ يجوز أن تكون الجملة حالاً من الضمير المستتر في « مُسخَّراتٍ »، ويجوز أن تكون حالاً من الطير، ويجوز أن تكون مستأنفة.
ومعنى « مُسخَّراتٍ » : مذللات، « في جوِّ السَّماءِ » وهو الهواءُ بين السَّماء والأرض؛ قال :[ الطويل ]

٣٣٥١- فَلسْتُ لإنْسيٍّ ولكِنْ لمَلأكٍ تَنزَّلَ من جوِّ السَّماءِ يَصُوبُ
وقيل : الجوُّ ما يلي الأرض في سمت العلوِّ واللوح والسُّكاك أبعد منه.
قال كعب الأحبار - رضي الله عنه- : إنَّ الطير يرتفع اثنا عشر ميلاً ولا يرتفع فوق هذا، وفوق الجوِّ السُّكاك، وفوق السُّكاك السماء، و ﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله ﴾ تعالى، أي : في حال القبض، والبسط، و الاسطفاف ينزلهم كيف يعتبرونها في وحدانيَّته.
﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ خصَّ هذه الآيات بالمؤمنين؛ لأنَّهم هم المنتفعون بها.

فصل


جسد الطائر جسم ثقيل، يمتنع بقاؤه في الجوِّ معلَّقاً بلا علاقة ولا دعامة، فوجب أن يكون الممسك له في الجوِّ هو الله - تعالى-، والظاهر أن إبقاءه في الجوِّ فعله باختياره، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق الله - تعالى-.
قال القاضي - C- : إنَّما أضاف - تعالى - هذا الإمساك إلى نفسه؛ لأنه - تعالى - هو الذي أعطى الآلات التي يمكن الطير بها من تلك الأفعال، فلما كان - تعالى جلَّ ذكره - هو المسبب لذلك، صحَّت هذه الإضافة.
والجواب : هذا تركٌ للظاهر من غير دليل.
قوله - تعالى- :﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ﴾ الآية وهذا نوعٌ آخر من دلائل التوحيد.
قوله :« سَكَناً » يجوز أن يكون مفعولاً أولاً، على أنَّ الجعل تصيير والمفعول الثاني أحد الجارين قبله، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلقِ فيتعدَّى لواحدٍ، وإنَّما وحد السكن؛ لأنه بمعنى ما يسكنون فيه، قاله أبو البقاء.


الصفحة التالية
Icon