وقد يقال : إنه في الأصل مصدر، وإليه ذهب ابن عطية، فتوحيده واضح إلا أن أبا حيَّان منع كون مصدراً ولم يذكر وجه المنع، وكأنه اعتمد على قول أهل اللغة : إن السكن « فَعْل » بمعنى « مَفْعُول » : كالقَبْضِ والنقْضِ بمعنى المَنْقُوض والمَقْبُوض؛ وأنشد الفراء فقال :[ البسيط ]

٣٣٥٢- جَاءَ الشِّتاءُ ولمَّا أتَّخِذْ سَكَناً يَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ حَفْرِ القَرامِيصِ
والسَّكنُ : ما سكنتَ إليه وما سَكنْتَ فيه، قال الزمخشري :« السَّكن ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلفٍ ».
واعلم أنَّ البيوت الَّتي يسكن فيها الإنسان على قسمين :
أحدهما : البيوت المتَّخذة من الحجر والمدر، وهي المرادة من قوله :﴿ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ﴾ وهذا القسم لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه.
والثاني : البيوت المتَّخذة من القباب والخيام والفساطيط، وهي المرادة بقوله :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا ﴾ وهذا القسم يمكن نقله مع الإنسان.
قوله :﴿ يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ﴾ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بفتح العين، والباقون بإسكانها، وهما لغتان كالنَّهْر والنَّهَر.
وزعم بعضهم أن الأصل الفتح، والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق؛ كالشَّعْر والشعَر «.
والظَّعنُ مصدر ظعن، أي : ارتحل، والظَّعينةُ : الهوجد فيه المرأة وإلا فهو محمل، ثم كثر حتى قيل للمرأة : ظعينة.

فصل


والمعنى : جعل لكم من جلودِ الأنعام بيوتاً، يعني : الخِيَام، والقِبَاب والأخبية، والفَساطِيط من الأنطاع والأدم : ، »
تَسْتَخِفُّونَها « أي : يخف عليكم حملها ﴿ يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ﴾ رحلتكم في سفركم، والظَّعْنُ : سير [ البادية ] لنجعة أو لحضور ماء أو طلب مرتع، والظَّعْنُ أيضاً : الهَوْدَج؛ قال :[ الهزج ]
٣٣٥٣- ألاَ هَلْ هَاجكَ الأظْعَانُ إذ بَانُوا وإذْ جَادتْ بِوشْكِ البَيْنِ غِرْبَانُ
﴿ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ﴾ في بلدكم لا يثقل عليكم في الحالتين، و »
مِنْ « راجعة إلى الحالتين ﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ ﴾ يعني : أصواف الضَّأن، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، والكنايات راجعة إلى الأنعام، وذكر الأصواف والأوبار ولم يذكر القطن والكتاب؛ لأنهما لم يكونا ببلاد العرب.
قوله :»
أثَاثاً « فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب عطفاً على »
بُيُوتًا « أي : وجعل لكم من أصوافها أثاثاً، وعلى هذا يكون قد عطف مجروراً على مجرورٍ، ومنصوباً على منصوب، ولا فصل هنا بين حرف العطف والمعطوف حينئذ.
وقال أبو البقاء - C- :»
وقد فصل بينه وبين حرف العطف بالجار والمجرور، وهو قوله تعالى :﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا ﴾ وهو ليس بفصل مستقبح كما زعم في الإيضاح؛ لأنَّ الجارَّ والمجرور مفعول، و تقديم مفعول على مفعول قياس «.
وفيه نظر؛ لأنه عطف مجروراً على مثله، ومنصوباً على مثله.
والثاني : أنه منصوب على الحال، ويكون قد عطف مجروراً على مثله تقديره : وجعل لكم من جلود الأنعام، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً حال كونها أثاثاً، ففصل لالمفعول بين المتعاطفين، وليس المعنى على هذا، إنما هو على الأول.


الصفحة التالية
Icon