وقال المانويَّة وقوم من الهند : إنه يجب على الإنسان أن يجتنب الطيِّبات، ويحترز عن كل ما يميل الطَّبع إليه، ويبالغ في تعذيب نفسه، حتى إن المانويَّة يخصُّون أنفسهم ويحترزون عن التزوج، ويحترزون عن أكل الطَّعام الطيِّب، والهند يحرقون أنفسهم، ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل، فهذان الطريقان مذمومان، والعدل هو شرعنا.
وثانيها : قيل : إنه كان في شرع موسى - صلوات الله وسلامه عليه - في القتلِ العمد استيفاءُ القصاص لا محالة، وفي شرع عيسى - صلوات الله وسلامه عليه - العَفو، وأمَّا في شرعنا : فإن شاء استوفى القصاص، وإن شاء عفا عن الدِّية، وإن شاء عفا مطلقاً.
وقيل : كان في شرع موسى - صلوات الله وسلامه عليه - الاحتراز العظيم عن الحائض؛ حتَّى إنَّه يجب إخراجها من الدَّار، وفي شرع عيسى ﷺ حلُّ وطئها، والعدل ما حكم به شرعنا؛ وهو تحريم وطئها فقط.
وثالثها : قال - تعالى- :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] وقال - جل ذكره- :﴿ والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٧ ] وقال - جل ذكره- :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ]، وقال ﷺ :« خَيْرُ الأمُورِ أوْسَطُهَا ».
ورابعها : أن شريعتنا أمرت بالختان، والحكمة فيه : أن رأس الذَّكر جسم شديد الإحساس، فلو بقيت القلفة، لبقي العضو على كمال قوَّته، فيعظم الالتذاذ، أمَّا إذا قطعت الجلدة، بقي العضو عارياً، فيلقى الثياب وسائر الأجسام، فيتصلب فيضعف حسُّه ويقل شعوره، فيقلُّ الالتذاذُ بالوقاع، فتقلُّ الرغبة فيه، فأمرت الشريعة بالختان؛ سعياً في تقليل تلك اللذة، حتَّى يصير ميلُ الإنسان إلى الوقاع معتدلاً، وألاّ تصير الرَّغبة فيه داعية غالبة على الطَّبع.
فالذي ذهب إليه المانويَّة من الإخصاء وقطع الآلات مذموم؛ لأنه إفراطٌ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة، والعدل الوسط هو الختانُ.
واعلم أن الزِّيادة على العدل قد تكون إحساناً، وقد تكون إساءة؛ فالعدل في الطاعات هو أداءُ الواجبات، والزيادة على الواجبات طاعاتٌ، فهي من جملة الإحسانِ؛ ولهذا قال - صلوات الله وسلامه عليه - لجبريل - صلوات الله وسلامه عليه - حين سأله عن الإحسان :« أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّك تَراهُ فإن لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ ».
وسمِّي هذا المعنى بالإحسان؛ لأنه بالمبالغة في الطاعة، كأنه يحسن إلى نفسه بإيصالِ الخير والفعل الحسن، ويدخل في الإحسان التعظيم لأمر الله، والشَّفقة على خلق الله، ويدخل في الشَّفقة على خلق الله أقسامٌ كثيرة، وأعظمها : صلة الرحم؛ فلهذا أفرده - تعالى - بالذِّكر، فقال - تعالى - :﴿ وَإِيتَآءِ ذِي القربى ﴾ وأما الثَّلاثة التي نهى الله عنها؛ وهي :« الفحشاء والمنكر والبغي » فنقول : إنه - تعالى - أودع في النَّفس البشرية قوى اربعة؛ وهي : الشَّهوانيَّة البهيميَّة، والغضبية والسبعيَّة، والوهميَّة الشيطانية، والعقلية الملكية.


الصفحة التالية
Icon