فالعقلية الملكيَّة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها؛ لأنه من جوهر الملائكة.
وأما القوَّة الشهوانية فرغبتها في تحصيل اللذَّات الشهوانية، وهذا النَّوع مخصوص بالفحشاءِ، ألا ترى أنه - تعالى - سمى الزنا فاحشة؛ فقال - جل ذكره - :﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ]، وقوله - تعالى- :﴿ وينهى عَنِ الفحشاء ﴾ المراد منه : المنع من تحصيل اللذات الشهوانيَّة.
وأما القوَّة الغضبية السبعية : فهي أبداً تسعى في إيصال الشرور والأذى إلى سائر النَّاس، وهذا ممَّا ينكره الناس، فالمنكر عبارةٌ عن الإفراطِ الحاصل من آثار القوَّة الغضبيَّة.
وأما القوة الوهمية الشيطانية : فهي أبداً تسعى في الاستعلاء على الناس، والترفع وإظهار الرِّياسة والتكبُّر، وذلك هو المراد من البغي؛ فإنه لا معنى للبغي إلا التَّطاول على الناس والترفُّع عليهم.
قوله :« يَعِظُكمْ » يجوز أن يكون مستأنفاً في قوَّة التعليل للأمر بما تقدم، أي : أن الوعظ سبب في أمره لكم بذلك، وجوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير في « يَنْهَى ».
وفي تخصيصه الحال بهذا الفاعل فقط نظر؛ إذ يظهر جعله حالاً من فاعل « يَأمرُ » أيضاً، بل أولى؛ فإنَّ الوعظ يكون بالأوامر والنَّواهي، فلا خصوصية له بالنَّهي.
ثم قال تعالى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ قال الكعبي : دلَّت الآية على أنَّه - تعالى - لا يخلق الجور والفحشاء من وجوه :
الأول : أنه - تعالى - كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم، وكيف ينهى ويريد تحصيله فيهم؟ ولو كان الأمر ما قالوه، لكان كأنَّه - تعالى - قال : إنَّما يأمركم بخلاف ما خلقه فيكم، وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم، وذلك باطلٌ في بديهة العقل.
الثاني : أنه - تعالى - أمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنهكر والبغي، فلو أنَّه - تعالى - أمر بتلك الثلاثة، ثم إنه - تعالى - ما فعلها، لدخل تحت قوله - تعالى - :﴿ أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٤٤ ]، وقوله - تعالى- :﴿ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ [ الصف : ٢، ٣ ].
الثالث : أن قوله - تعالى- :﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ ليس المراد منه الترجِّي والتَّمني؛ فإن ذلك محالٌ على الله - تعالى-، فوجب أن يكون معناه : أنه - تعالى - يعظكم لإرادة أن يذكروا طاعته، وذلك يدلُّ على أنه يريد الإيمان من الكلِّ.
الرابع : أنه - تعالى - لو صرَّح وقال : إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ولكنَّه يمنع منه ويصدُّ عنه، ولا يمكن العبد منه، ثم قال - تعالى - :﴿ وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي ﴾، ولكنَّه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى، وأراده منه ومنعه من تركه، ومن الاحتراز عنه؛ لحكم كل واحدٍ عليه بالرَّكاكة وفساد النظم والتركيب، وذلك يدلُّ على كونه - تعالى - منزَّهاً عن فعل القبائح.


الصفحة التالية
Icon