فإن قيل : حمل الآية عليه يؤدِّي إلى التِّكرار؛ لأن قوله :﴿ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب ﴾ ليحصل فيه هذا البيان الزَّائد؛ ونظائره في القرآن كثيرة وهو أنه تعالى يذكر كلاماً، ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة.
الثاني : أن ينتصب مفعولاً به للقول، ويكون قوله :« هذَا حَلالٌ » بدلاً من « الكَذِب » ؛ لأنه عينه، أو يكون مفعولاً بمضمر، أي : فيقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، و « لِمَا تَصِفُ » علَّة أيضاً، والتقدير : ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم، وهل يجوز أن تكون المسألة من باب التَّنازع على هذا الوجه؛ وذلك أن القول يطلب الكذب، و « تَصِفُ » أيضاً يطلبه، اي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه السنتكم، وفيه نظر.
الثالث : أن ينتصب على البدل من العائد المحذوف على « مَا »، إذا قلنا : إنَّها بمعنى الذي، والتقدير : لما تصفه، ذكر ذلك الحوفي وأبو البقاء رحمهما الله تعالى.
الرابع : أن ينتصب بإضمار أعني؛ ذكره أبو البقاء، ولا حاجة إليه ولا معنى عليه.
وقرأ الحسن، وابن يعمر، وطلحة :« الكَذبِ » بالخفض، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بدلٌ من الموصول، أي : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذب، جعله نفس الكذب؛ لأنَّه هو.
والثاني :- ذكره الزمخشري- : أن يكون نعتاً ل « مَا » المصدرية.
ورده أبو حيَّان : بأن النُّحاة نصُّوا على أن المصدر المنسبك من « أنْ » والفعل لا ينعت؛ لا يقال : يُعْجِبني أن تخرج السريع، ولا فرق بين باقي الحروف المصدرية وبين « أنْ » في النَّعت.
وقرأ ابن أبي عبلة، ومعاذ بن جبل - رحمهما الله- : بضمِّ الكاف والذَّال، ورفع الباء صفة للألسنة، جمع كذوب؛ كصَبُور وصُبُر، أو جمع كَاذِب، كشَارِف وشُرُف، أو جمع كَذَّاب؛ نحو « كتَّاب وكُتُب »، وقرأ مسلمة بن محارب فيما نقله ابن عطيَّة كذلك، إلا أنه نصب الباء، وفيه ثلاثة أوجهٍ ذكرها الزمخشري :
أحدها : أن تكون منصوبة على الشَّتم، يعني : وهي في الأصل نعت للألسنة؛ كما في القراءة قبلها.
الثاني : أن تكون بمعنى الكلم الكواذب، يعني : أنها مفعول بها، والعامل فيها إما « تَصِفُ »، وإمَّا القول على ما مرَّ، أي : لا تقولوا الكلم الكواذب أو لما تصف ألسنتكم الكلم الكواذب.
الثالث : أن يكون جمع الكذاب، من قولك : كذب كذاباً، يعني : فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه من معنى وصف الألسنة، فيكون نحو : كُتُب في جمع كِتَاب.
وقد قرأ الكسائي :« ولا كِذَاباً » بالتخفيف، كما سيأتي في سورة النبأ إن شاء الله - تعالى -.
واعلم أن قوله :﴿ تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب ﴾ من فصيح الكلام وبليغه، كأن ماهيَّة الكذب وحقيقته مجهولة، وكلامهم الكذب يكشف عن حقيقة الكذب، ويوذِّح ماهيته، وهذه مبالغة في وصف كلامهم بكونه كذباً؛ ونظيره قول ابي العلاء المعريِّ :[ الوافر ]


الصفحة التالية
Icon