رواه الدارقطني.
وقال القرطبي :« ووقع في مسند ابن إسحاق : أنَّ هذا الحديث إنَّما ورد في رجل زنا بامرأة ىخر، ثم تمكَّن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار ذلك الرجل رسول الله ﷺ في الأمرِ، فقال له :» أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ « وعلى هذا يقوى قول مالك - رضي الله عنه - في المال؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك ».

فصل


اعلم أنه - تعالى - أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتَّب ذلك على أربع مراتب :
الأولى : قوله :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ يعني : إن رغبتم في استيفاء القصاص، فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه؛ فإن استيفاء الزِّيادة ظلمٌ، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته، وفي قوله - تعالى - :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ دليل على أن الأولى ألاّ يفعل؛ كما يقول الطبيب للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة، فكل التفاح، فإن معناه : الأولى بك ألاّ تأكله، فذكر - تعالى - بطريق الرَّمز والتعريض [ على ] أن الأولى تركه.
والمرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التَّصريح، وهو قوله - تعالى- :﴿ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ وهذا تصريح بأنَّ الأولى ترك ذلك الانتقام؛ لأن الرحمة أفضل من القسوة، والانتفاع أفضل من الإيلام.
المرتبة الثالثة : وهو الأمر بالجزم بالتَّرك، وهو قوله :« واصْبِرْ » ؛ لأن في المرتبة الثانية ذكر أن التَّرك خيرٌ وأولى، وفي هذه المرتبة الثالثة صرَّح بالأمر بالصَّبر في هذا المقام، ولمَّا ك ان الصبر في هذا المقام شديداً شاقًّا، ذكر بعده ما يفيد سهولته؛ فقال - تعالى- :﴿ واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله ﴾ أي : بتوفيقه ومعونته، وهذا هو السب الكلي الأصلي في حصول جميع أنواع الطاعات.
ولما ذكر هذا السبب الكليَّ الأصلي، ذكر بعده ما هو السببُ الجزئي القريب؛ فقال - جل ذكره- :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ ؛ وذلك لأنَّ إقدام الإنسان على الانتقام، وعلى [ إنزال ] الضرر بالغير لا يكون إلا من هيجان الغضب، وشدَّة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين :
أحدهما : فوات نفع كان حاصلاً في الماضي، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ قيل : معناه : ولا تحزن على قتلى « أحدٍ »، أي : ولا تحزن بفوات أولئك الأصدقاء وقيل : ولا تحزن عليهم في إعراضهم عنك، ويرجع حاصله إلى فوات النفع.
والسبب الثاني : أن شدَّة الغضب قد تكون لتوقع ضرر في المستقبل، وإليه الإشارة بقوله :﴿ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾، ومن وقف على هذه اللَّطائف، عرف أنَّه لا يمكن كلام [ أدخل ] في الحسن والضبط من هذا الكلام.


الصفحة التالية
Icon