فإن قالوا : نحن لا نقول : إنَّ جبريل - عليه السلام - جسمٌ ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، وإنما نقول : المراد من نزول جبريل- عليه السلام - هو زوالُ الحجبِ الجسمانيةَ عن جسمِ محمَّد ﷺ حتَّى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضراً متجلِّياً في ذات جبريل - عليه السلام-.
قلنا : تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء، أمَّا جمهور المسلمين فيقولون : إنَّ جبريل - عليه السلام - جسمٌ، وأنَّ نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك [ إلى مكَّ’ ]، وإذا كان كذلك، كان الإلزام المذكور قويًّا.
رُوِيَ أنه - عليه السلام - لما ذكر قصَّة المعراجِ كذَّبه الكلُّ، وذهبوا إلى أبي بكرٍ، وقالوا له :« إنَّ صاحبك يقول كذا وكذا »، فقال أبو بكرٍ :« إنْ كَانَ قد قال ذلك، فهو صادقٌ »، ثم أتى إلى النبيِّ ﷺ فذكر الرسول له تلك التفاصيل، وكلَّما ذكر شيئاً، قال أبو بكر - رضي الله عنه- :« صَدَقْتَ »، فلمَّا تمَّ الكلام، قال أبو بكرٍ :« أشْهَدُ أنَّك رسُولُ الله حقًّا »، فقال الرسول ﷺ :« وأشْهَدُ أنَّك صدِّيقٌ حقًّا ».
وحاصل الكلام أنَّ أبا بكرٍ كأنه قال : لمَّا سلمتُ رسالته فقد صدَّقتهُ فيما هُو أعْظَمُ من هذا، فكَيْفَ أكذِّبه في هذا؟!.
الرابع : أكثر أرباب الملل والنِّحل يُسلِّمُونَ وجود إبليس، ويسلّمون أنه هو الذي يلقي الوسوسة في قلوب بني آدم، فلما جوَّزوا مثل هذه الحركة السريعة في حقِّ إبليس ويسلِّمون، فلأن يسلِّموا جوازها في حقِّ أكابرِ الأنبياءِ أولى، وهذا الإلزام قوي على من يسلِّم أنَّ إبليس جسمٌ ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ.
وأمَّا من يقول :« إنه من الأرواحِ الخبيثة الشِّرِّيرة، وأنَّه ليس بجسم، ولا جسمانيٍّ، فلا يرد عليهم هذا الإلزامُ إلا أن أكثر أرباب الملل والنِّحل يوافقون على أنه جسمٌ لطيفٌ ينتقل.
فإن قالوا : إنَّ الملائكة والشياطين يصحُّ في حقِّهم مثل هذه الحركة السَّريعة، إلاَّ أنهم اجسامٌ لطيفةٌ، فلا يمتنع حصُولُ مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها، أمَّا الإنسان فإنَّه جسم كثيف، وكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة فيه؟ قلنا : نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشَّياطين على أن حصول حركةٍ منتهية في السُّرعة إلى هذا الحدِّ ممكن في نفس الأمر.
فأمَّا بيانُ أنَّ هذه الحركة، لمَّا كانت ممكنة الوجود في نفسها، كانت أيضاً ممكنة الحصول في جسم البدن الإنسانيِّ، فذاك مقام آخر يأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
الخامس : أنه جاء في القرآن أنَّ الرياح كانت تسير بسليمان - صلوات الله عليه - إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة؛ قال تعالى :