لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزالِ التوراة، وبأنه جعل التوراة هدًى لهم، بيَّن أنهم ما اهتدوا بهداه، بل وقعوا في الفساد، فقال :﴿ وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب ﴾ والقضاء في اللغة عبارةٌ عن وضع الأشياء عن إحكام، ومنه قوله :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ [ فصلت : ١٢ ].
وقول الشاعر :[ الكامل ]

٣٣٧٥- وعَليْهِمَا مَسْرُودَتانِ قَضاهُمَا ......................
ويكون أمراً؛ كقوله تعالى :﴿ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ].
ويكون حكماً؛ كقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ﴾ [ يونس : ٩٣ ] ويكون خلقاً؛ كقوله :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ ومعناه [ في ] الآية : أعْلَمنَاهُم، وأخْبرنَاهُم فيما آتيْناهُم مِنَ الكُتبِ أنه سَيُفسِدُونَ.
وقال ابن عباس وقتادة :« وقَضَيْنَا عليهم ».
و « إلى » بمعنى « على » والمراد بالكتاب اللَّوح المحفوظ.
و « قَضَى » يتعدَّى بنفسه :﴿ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ] ﴿ فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل ﴾ [ القصص : ٢٩ ]، وإنما تعدَّى هنا ب « إلى » لتضمُّنه معنى : أنْفَذْنَا وأوْحَينَا، أي : وأنفذنا إليهم بالقضاء المحتومِ. ومتعلق القضاء محذوفٌ، أي : بفسادهم.
وقوله « لتُفْسِدُنَّ » جواب قسمٍ محذوف تقديره : والله لتُفسدُنَّ في الأرْضِ مَرَّتينِ وهذا القسم مؤكدٌ لمتعلق القضاء.
ويجوز أن يكون « لتُفْسِدُنَّ » جواباً لقوله :« وقَضيْنَا »، لأنه ضمِّن معنى القسم، ومنه قولهم :« قضَاءُ الله لأفعلنَّ » فيجرُون القضاء والنَّذرَ مجرى القسمِ، فيُتلقَّيان بما يُتَلقَّى به القسمُ.
والعامة على توحيد « الكِتابِ » مراداً به الجنس، وابن جبيرٍ وأبو العالية « في الكُتُب » جمعاً، جَاءُوا به نصًّا في الجمع.
وقرأ العامة بضمِّ التاء وكسر السِّين مضارع « أفْسَدَ »، ومفعوله محذوف تقديره : لتُفْسِدنَّ الأديان، ويجوز ألا يقدَّر مفعولٌ، أي : لتُوْقعُنَّ الفساد.
وقرأ ابن عبَّاس ونصرُ بن عليٍّ وجابر بن زيد « لتُفْسَدُنَّ » ببنائه للمفعولِ، أي : ليُفْسِدنَّكُمْ غَيرُكم : إمَّا من الإضلال أو من الغلبة. وقرأ عيسى بن عمر بفتحِ التَّاء وضمِّ السين، أي : فَسدتُمْ بأنفسكم.
قوله :« مرَّتينِ » منصوب على المصدر، والعامل فيه « لتُفْسِدُنَّ » لأن التقدير : مرتين من الفساد.
وقوله :« عُلُوًّا » العامة على ضمِّ العين واللام مصدر علا يعلو، وقرأ زيد بن عليٍّ « عِلياً » بكسرهما والياء، والأصل الواو، وإنما أعِلَّ على اللغة القليلة؛ وذلك أن فُعولاً المصدر، الأكثر فيه التصحيح؛ نحو : عَتَا عُتُواً، والإعلال قليلٌ؛ نحو ﴿ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٩ ] على أحد الوجهين؛ كما سيأتي، وإن كان جمعاً، فالكثير الإعلال، نحو :« جِثِيًّا » وشذَّ : بَهْوٌ وبُهُوٌّ، ونَجْوٌ ونُجُوٌّ، وقاسه الفراء.

فصل


معنى ﴿ وَقَضَيْنَآ ﴾ : أوحينا ﴿ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض ﴾، أي بالمعاصي وخلاف أحكام التوراة.
﴿ فِي الأرض ﴾ يعني أرض الشَّام وبيت المقدس.
﴿ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً ﴾ أي : يكون استعلاؤكم على النَّاس بغير الحقِّ استعلاءاً عظيماً؛ لأنَّه يقال لكلِّ متكبِّر متجبِّر : قد علا وتعظَّم.


الصفحة التالية
Icon