قال ابن الخطيب : ولقائلٍ أن يقول : كما أنَّ قوله :« أمَرْتُهُ »، فَعصَانِي « يدلُّ على أن المأمور به شيءٌ غير المعصية من حيث إنَّ المعصية منافية للأمر مناقضةٌ له، فكذلك قوله : أمرته ففسق يدلُّ أنَّ المأمور به شيء غير الفسقِ؛ لأن الفسقَ عبارةٌ عن الإتيان
بضدِّ المأمور به، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به، كما أنَّ كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها؛ فوجب أن يدلَّ هذا اللفظ على أنَّ المأمور به ليس بفسقٍ، وهذا في غاية الظهور.
الوجه الثاني : أنَّ » أمَرْنَا « بمعنى كَثَّرْنَا قال الواحديُّ : العرب تقول : أَمِرَ القومُ : إذا أكثروا. ولم يرض به الزمخشريُّ في ظاهر عبارته، فإنه قال : وفسَّر بعضهم » أمَرْنَا « ب » كَثَّرْنَا « وجعله من باب :» فعَّلتُه، فَفَعَلَ « ك » ثَبَّرْتُهُ فَثَبَر «. وفي الحديث :» خَيْرُ المَالِ سكَّة مَأبورةٌ، ومُهرةٌ مَأمُورةٌ «، أي : كثيرة النِّتاجِ. وقد حكى أبو حاتم هذه اللغة، يقال : أمِرَ القوم، وأمرهم الله، ونقله الواحديُّ عن أهل اللغة، وقال أبو عليٍّ :» الجيِّدُ في « أمَرْنَا » أن يكون بمعنى « كَثَّرْنَا » واستدلَّ أبو عبيدة بما جاء في الحديث، فذكره؛ يقال : أمر الله المهرة، أي : كثَّر ولدها، قال :« ومَنْ أنكر » أمَرَ الله القومَ « أي : كثَّرهم [ لم يلتفت إليه؛ لثبوت ذلك لغة » ويكونُ ممَّا لزم وتعدى بالحركةِ المختلفة؛ إذ يقال : أمر القوم، كثروا، وأمرهم الله : كثَّرهُمْ ]، وهو من باب المطاوعة : أمرهم الله، فأتمروا، كقولك : شَتَرَ اله عينهُ، فَشتِرَتْ، وجدعَ أنْفَهُ فجَدِعَ، وثلمَ سنَّهُ، فثَلِمَتْ.
وقرأ الحسن، ويحيى بن يعمر، وعكرمة « أمِرْنَا » بكسر الميم؛ بمعنى « أمَرْنَا » بالفتح، حكى أبو حاتم، عن أبي زيدٍ : أنه يقال :« أمَرَ الله [ مالهُ، ] وأمِره » بفتح الميم وكسرها، وقد ردَّ الفراء وهذه القراءة، ولا يلتفت لردِّه؛ لثبوتها لغة بنقل العدولِ، وقد نقلها قراءة عن ابن عبَّاس أبو جعفر، وأبو الفضل الرازيُّ في « لَوامحهِ » فكيف تردُّ؟.
وقرأ عليُّ بن أبي طالب، وابن أبي إسحاق وأبو رجاء - رضي الله عنهم - في آخرين « آمَرْنَا » بالمدِّ، ورُويتْ هذه قراءة عن ابن كثير وأبي عمرو، وعاصم ونافع، واختارها يعقوب، والهمزة فيه للتعدية.
وقرأ عليٌّ أيضاً، وابن عباس، وأبو عثمان النهديُّ :« أمَّرْنَا » بالتشديد، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّ التضعيف للتعدية، عدَّاه تارة بالهمزة، وأخرى بتضعيف العين، كأخرجته وخرَّجته.
والثاني : أنه بمعنى جعلناهم أمراء، واللازم من ذلك « أمِّرَ » ق لالفارسي :« لا وجه لكون » أمَّرنَا « من الإمارة؛ لأنَّ رئاستهم لا تكون إلاَّ لواحد بعد واحد، والإهلاكُ إنَّما يكون في مدَّة واحدةٍ ». ورُدَّ على الفارسي : بأنَّا لا نسلم أنَّ الأمير هو الملكُ؛ حتى يلزم المترف إذا ملك، ففسق، ثم كذلك، كثر الفساد، ونزل بهم على الآخر من ملوكهم العذاب، واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال : فإنَّ المعاني الثلاثة تجتمع فيها، يعني : المر، والإمارة، والكثير.