وأيضاً : حال ما يكون الإنسان في غاية الضَّعفِ ونهاية العجز يكون جميعُ أصناف نعم الأبوين في ذلك الوقت واصلة إلى الولدِ، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه، كان موقعه عظيماً.
وأيضاً : فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض، فكان الإنعام فيه أتمَّ وأكمل، فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحدٍ من المخلوقين نعمةٌ على غيره مثل ما للوالدين على الولدِ، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق؛ فقال تعالى :﴿ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين، فقال تعالى :﴿ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾. فإن قيل : إنَّ الوالدين إنَّما طلبا تحيل اللذَّة لأنفسهما؛ فلزم منه دخول الولد في الوجود، ودخوله في عالم الآفات والمخافات، فأيُّ إنعامٍ للأبوين على الولد.
يحكى أن بعض المنتسبين للحكمة كان يضربُ أباه، ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد، وعرَّضني للموت، والفقر، والعمى، والزَّمانة.
وقيل لأبي العلاء المعرِّي : ماذا تكتب على قبرك؟ فقال اكتبوا عليه :[ الكامل ]
٣٣٩٦- هَذَا جَناهُ أبِي عَلَيْ | يَ وما جَنَيْتُ عَلى أحَدْ |
٣٣٩٧- وتَركْتُ فِيهِمْ نِعْمةَ الْ | عدم التي سبقت نعيم العاجل |
ولوْ أنَّهُمْ ولَدُوا لعَانَوا شِدَّة | تَرْمِي بِهمْ في مُوبِقاتِ الآجلِ |
هبْ أنَّه في أوَّل الأمر طلب لذة الوقاع، إلاَّ أن الاهتمام بإيصال الخيراتِ إليه، ودفع الآفاتِ من أوَّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر، أليس أنَّه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهاتِ الخيرات والميرات؟ فسقطت هذه الشبهات.
واعلم أن لفظ الآية يدلُّ على معانٍ كثيرة، كل واحدٍ منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين، منها أنه تبارك وتعالى قال في الآية المتقدمة :﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ [ الإسراء : ١٩ ]، ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي يحصل بها الفوز بسعادة الآخرة. وذكر من جملتها البرَّ بالوالدين، وذلك يدلُّ على أن هذه الطاعة من أصول الطَّاعات التي تفيد سعادة الآخرة.
ومنها أنَّه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتَّوحيد، وثنَّى بطاعة الله، وثلَّث ببرِّ الوالدين، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطَّاعة.
ومنها : أنه تعالى لم يقل :« وإحْسَاناً بالوَالِديْنِ »، بل قال :﴿ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾، فتقديم ذكرهما يدل على شدَّة الاهتمام.