قوله :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً ﴾ الأية، « جَعلْنَا » : يجوز أن يكون بمعنى « خَلقْنَا » فيتعلق به الجارُّ، وأن يكون بمعنى صيِّرنا؛ فيكون مفعلوه الأول :« بُرُوجاً » ومفعوله الثاني : الجارَّ، فيتعلق بمحذوفٍ، و « للنَّاظِرينَ » متعلق ب « زَينَّاهَا »، والضمير ل « السَّماءِ » أي : زيَّناها بالشَّمس، والقمرِ، والنجوم.
وقيل : للبروج : وهي الكواكب، زَّنَّاها بالضوءِ، والنظر عينيّ.
وقيل : قلبي وحذف متعلقة؛ ليعُمَّ.
فصل في دلائل التوحيد السماوية والأرضية
لما أجاب عن منكري النبوة، وقد ثبت أنَّ القول بالنبوةِ فرعٌ على القول بالتوحيد، أتبعه تعالى بدلائل التوحيد وهي : منها سماويَّة، ومنها أرضية، فبدأ بذكر السماوية، فقال وتعالى :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴾.
قال اللَّيثُ رحمه الله : البُرُوج واحدها بُرْج من بُروجِ الفلك، والبُرُوج : هي النجوم الكبار، مأخوذة من الظهور، يقال : بَرجَتِ المرأةُ، أي : ظهرت، وأراد بها المنازل التي تنزلها الشمس، والقمر، والكواكب السيارة.
والعرب تعدُّ المعرفة بمواقعِ النُّجوم، وأبوابها من أجلِّ العُلومِ، ويستدلُّون بها على الطُّرقاتِ، والأوقاتِ، والخصب، والحدْبِ، وقالوا : الفلكُ : اثنَا عشر بُرْجاً، كلُّ برجٍ ميلان، ونصر للقمر.
وقال ابن عطية : هي قصورٌ في السماءِ، وعليها الحرسُ.
﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ مَرجُومٍ، وقيل : ملعُون.
قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنه كانت الشياطين لا يحجبون عن السمواتِ، وكانوا يدخلونها، ويأتون بأخبارها؛ فيلقون على الكهنة، فلما ولد عيسى صلوات الله وسلامه عليه منعوا من ثلاث سماواتٍ، فلما و لد محمدٌ ﷺ من السموات أجمع، فما منهم من أحدٍ يريد استراق السمع، 'إلاَّ رمي بشهابٍ.
فلمَّا منعُوا من تلك المقاعد، ذكروا ذلك لإبليس، فقال : حدث في الأرض حدثٌ، قال : فبعثهم، فوجد رسول الله صلواتالله وسلامه عليه يتلوا القرآن، فقالوا والله حدث.
فإن قيل : ما معنى :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ والشيطانُ لا قدرة له على هدم السماء، فإيُّ حاجة إلى حفظ السماء منه؟ قلنا : لما منعمه من القرب منها، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان، فحفظ الله السماء منهم، كما قد يحفظ منازلنا ممَّن يخشى منه الفساد.
والرَّميُ في اللغة : الرميُ بالحجارة، والرَّجمُ أيضاً : السبُّ والشتمُ؛ لأنه رميٌ بالقولِ القبيح، والرجمُ : القول بالظنِّ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ رَجْماً بالغيب ﴾ [ الكهف : ٢٢ ] ؛ لأنه يرميه بذلك الظنِّ، والرجم أيضاً : اللَّعن، والطَّرد.
قوله :﴿ إِلاَّ مَنِ استرق ﴾ فيه خمسة أوجه :
أحدهما في محل نصب على الاستثناء المتصل، والمعنى : فإنها لم تحفظ منه؛ قاله غير واحدٍ.
الثاني : منقطعٌ ومحله النصب أيضاً، أي : لكن من استرق السمع. قال الزجاج رحمه الله.