ثم قال تعالى :﴿ قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ﴾ وذلك أنَّهم استبعدوا أن يردَّهم أحياءً بعد أن صاروا عظاماً ورفاتاً، فإنَّها صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر، فقال : ولقد قدرتم أنَّ هذه الأجسام بعد الموت تصير إلى صفة أخرى أشدَّ منافاة لقبول الحياة من كونها عظاماً ورفاتاً؛ مثل أن تصير حجارة أو حديداً؛ فإنَّ المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة اشدُّ من المنافاة بين العظميَّة وبين قبول الحياة؛ لأنَّ العظم كان جزءاً من بدن الحيِّ، وأمَّا الحجارة والحديد، فما كانا ألبتَّة موصوفين بالحياة، فبتقدير أن تصير أبدان الناس حجارة أو حديداً بعد الموت، فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها، ويجعلها حية عاقلة، كما كان، والجليل على صحَّة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل؛ إذ لو لم يكن القبول حاصلاً، لما حصل العقل والحياة لها في أوَّل الأمر، وإله العالم عالمٌ بجميع الجزئيَّات، فلا يشتبه عليه أجزاء بدنِ زيد المطيع بأجزاء بدن عمرو العاصي، وقادرٌ على كل الممكنات.
وإذا ثبت أنَّ عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكنٌ في نفسه، وثبت أنَّ إله العالم عالمٌ بجميع المعلومات، قادرٌ على كلِّ الممكنات، كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكناً قطعاً سواءٌ صارت عظاماً ورفاتاً أو أشياء أبعد من العظم في قبول الحياة، مثل أن تصير حجارة أو حديداً، وهذا ليس المراد منه الأمر، بل المراد أنَّكم لو كنتم كذلك، لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة؛ كقول القائل للرجل : أتطمع فيَّ، وأنا ابنُ فلانٍ؟!! فيقول : كُنْ من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقِّي. ثم قال تعالى :﴿ أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾ أي : لو فرضتم شيئاً آخر أبعد من قبولِ الحجر والحديد للحياة، بحيث يستبعد عقلكم قبوله للحياة، ولا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء؛ لأنَّ المراد أنَّ أبدان النَّاس، وإن انتهت بعد موتها إلى أيِّ صفة فرضت، وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة، فإنَّ الله قادرٌ على إعادة الحياة إليها.
قال ابن عبَّاس، ومجاهد، وعكرمة، وأكثر المفسِّرين - رضي الله عنهم - : إنَّه الموت؛ فإنَّه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت، أي : لو كنتم الموت بعينه، لأميتنَّكم، ولأبعثنكم، وهذا إنَّما يحسنُ ذكره على سبيل المبالغة، أما نفس الأمر بهذا، فهو محالٌ؛ لأن أبدان النَّاس أجسامٌ، والموت عرضٌ، والجسم لا ينقلب عرضا، وبتقدير أن ينقلب عرضاً، فالموت لا يقبل الحياة؛ لأن أحد الضِّدين يمتنع اتصافه بالضدِّ الآخر.
وقال بعضهم : يعني السَّماء والأرض.
ثم قال تعالى :﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ﴾، أي : من الذي يقدر على إعادة الحياة، فقال تعالى :﴿ قُلْ ﴾ يا محمد :﴿ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ أي : خلقكم أوَّل مرة، ومن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة.