قوله تعالى :﴿ الذي فَطَرَكُمْ ﴾ : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي : الذي فطركم يعيدكم، وهذا التقدير فيه مطابقة بين السؤال والجواب.
والثاني : أنه خير مبتدأ محذوف، أي : معيدكم الذي فطركم.
الثالث : أنه فاعل بفعل مقدَّر، أي : يعيدكم الذي فطركم، ولهذا صرِّح بالفعل في نظيره عند قوله :﴿ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم ﴾ [ الزخرف : ٩ ].
و « أوَّل مرَّةٍ » ظرف زمانٍ ناصبه « فَطرَكُمْ ».
قوله تعالى :﴿ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ﴾، أي : يحرِّكونها استهزاء، يقال : أنغض رأسه ينغضها، أي : يحركها إلى فوق، وإلى أسفل إنغاضاً، فهو منغضٌ، قال :[ الرجز ]

٣٤٢٨- أنْغضَ نَحْوي رَاسهُ وأقْنَعا كَأنَّهُ يَطلبُ شيئاً أطْمعَا
وقال آخر :[ الرجز ]
٣٤٢٩- لمَّا رَأتْنِي أنغضَتْ لِي الرَّأسَا... وسمي الظليم نغضاً لأنه يحرك رأسه وقال أبو الهيثم :« إذا أخبر الرجلُ بشيءٍ، فحرَّك رأسه؛ إنكاراً له، فقد أنغضَ ».
قال ذو الرُّمَّة :
٣٤٣٠- ظَعائِنُ لمْ يَسْكُنَّ أكْنافَ قَرْيةٍ بِسيفٍ ولَمْ تَنْغُضْ بهنَّ القَناطِرُ
أي : لم تحرَّك، وأمَّا نغض ثلاثيًّا، ينغَض وينغُض بالفتح والضمِّ، فبمعنى تحرَّك، لا يتعدَّى يقال : نغضتْ سنُّه، أي : تحرَّكتْ، تَنغِضُ نغضاً، ونغوضاً. قال :[ الرجز ]
٣٤٣١- ونَغَضتْ مِنْ هَرمٍ أسْنانُهَا... ثم قال تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ متى هُوَ ﴾، أي : البعث والقيامة، وهذا سؤالٌ فاسدٌ؛ لأنَّهم منعوا الحشر والنشر كما تقدَّم؛ ثمَّ بين تعالى بالبرهان القاطع كونه ممكناً في نفسه، فقولهم « مَتَى هُوَ » كلام لا يتعلق بالبعث؛ فإنَّه لما ثبت بالدليل العقليِّ كونه ممكن الوجود في نفسه، وجب الاعتراف بإمكانه، فإنه متى يوجد، فذاك لا يمكن إثباته بالعقل، بل إنما يمكن إثباته بالدَّليل السمعي، فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعيَّن، عرف، وإلا فلا سبيل إلى معرفته.
وقد بين الله تبارك وتعالى في القرآن؛ أنَّه لا يطلع أحداً من الخلق على وقته المعيَّن، فقال جلَّ ذكره :﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] وقال :﴿ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] وقال تعالى :﴿ إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ﴾ [ طه : ١٥ ] فلا جرم قال تعالى :﴿ عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً ﴾.
قال المفسِّرون :« عَسَى » من الله واجبٌ، معناه : أنه قريبٌ، فإن قيل : كيف يكون قريباً، وقد انقرض سبعمائة سنة، ولم يظهر.
فالجواب : قال ابن الخطيب : إن كان معنى :« أكثر مَّا بَقِيَ » كان الباقي قليلاً، ويحتمل أن يريد بالقرب أن إتيان السَّاعة متناهٍ، وكل ما كان متناهياً من الزَّمان فهو قليلٌ، بل أقلُّ من القليل بالنسبة إلى الزَّمان الذي بعده؛ لأنَّه غير متناهٍ؛ كنسبة العدد المتناهي إلى العدد المطلقِ؛ فإنَّه لا ينسب إليه بجزءٍ من الأجزاء، ولو قلَّ.
ويقال في المثل « كل آت قريب ».


الصفحة التالية
Icon