فصل في دلالة الآية
دلَّت هذه الآية على أمور :
منها : أنَّ الصلاة لا تكون إلا بقراءة؛ لقوله تعالى :﴿ أَقِمِ الصلاة ﴾.
ومنها : أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر، و التقدير : وأقم الفجرِ.
ومنها : أنه علَّق القراءة بحصول الفجر، وفي أوَّل طلوعه، إلاَّ أنَّ الإجماع على أنَّ هذا الوجور غير حاصل؛ فوجب أن يبقى على النَّدب؛ لأنَّ الوجوب عبارةٌ عن رجحانٍ مانعٍ من التَّرك، فإذا منع مانع من تحقُّق الوجوب، وجب أن يرتفع المنع من التَّرك، وأن يبقى أصل الرُّجحان؛ حتَّى تنقل مخالفة الدليل؛ فثبت أنَّ هذه الآية تقتضي أنَّ إقامة الفجر في أوَّل الوقت أفضل؛ وهذا يدلُّ على أن التغليس أفضل من التَّنوير.
ومنها أن القراءة تكون في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات؛ لأنَّ المقصود من قوله تعالى :﴿ وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً ﴾ الحثُّ على طول القراءة في هذه الصلاة؛ لأن التخصيص بالذِّكر يدلُّ على أنه أكملُ من غيره.
ومنها : قوله تعالى :﴿ إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً ﴾.
ومعناه : أنَّ ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصُّبح خلف الإمام، تنزلُ ملائكة النَّهارعليهم، وهم في الصَّلاة؛ قبل أن تعرج ملائكة اللَّيل، وإذا فرغ الإمام من الصلاة، عرجت ملائكة الليل، ومكثت ملائكة النَّهار، ثمَّ إن ملائكة الليل إذا صعدت، قالت : يا ربِّ، إنَّا تركنا عبادك يصلُّون لك، وتقول ملائكة النَّهارِ : ربَّنا، أتينا عبادك يصلُّون لك، فيقول الله تعالى لملائكته : اشهدوا أنِّي قد غفرت لهم.
وهذا يدل على أنَّ التغليس أفضل من التنوير، لأنَّ الإنسان، إذا شرع فيها من [ أوَّل ] الصُّبح، ففي ذلك الوقت : الظلمة باقية، فتكون ملائكة الليل حاضرين، ثمَّ إذا امتدَّت الصلاة بسبب ترتيل القراءة، وتكثيرها، زالت الظلمة، وظهر الضوء، وحضرت ملائكةُ النهار، وأمَّا إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التَّنوير، فهناك لم يبق أحدٌ من ملائكة الليل؛ فلا يحصل المعنى المذكور، فقوله جلَّ ذكره :﴿ كَانَ مَشْهُوداً ﴾. يدلُّ على أنَّ التغليس أفضلُ.
قوله تعالى :﴿ وَمِنَ الليل ﴾ : في « مِنْ » هذه وجهان :
أحدهما : أنها متعلقة ب « تَهجَّد » أي : تهجَّد بالقرآن بعض الليل.
والثاني : أنها متعلقة بمحذوفٍ، تقديره : وقم قومة من الليل، أو : واسهر من الليل، ذكرهما الحوفيُّ، وقال الزمخشريُّ :« وعليك بعض الليل، فتهجَّد به » فإن كان أراد تفسير المعنى، فقريبٌ، وإن أراد تفسير الإعراب، فلا يصحُّ؛ لأنَّ المغرى به لا يكون حرفاً، وعله « مِنْ » بمعنى « بعضٍ » لا يقتضي اسميَّتها؛ بدليل أنَّ واو « مََ » ليست اسماً بإجماع، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو « مَعَ ».
والضمير في « به » :
الظاهر : عوده على القرآن؛ من حيث هو، لا بقيد إضافته إلى الفجر.